دخل عمرو على النجاشي، وكان اللقاء حاراً بين الصديقين، ليس هذا فقط، بل أتى له بالهدايا العظيمة وأعطاها له، وأصبح الجو مهيأ للكلام، فالكل أخذ الثمن، والابتسامات على الوجوه، والخطة جارية كما يريد.
كان عمرو شديد الذكاء، واختار كل كلمة بدقة شديدة، وأثرت كلماته مع أنها لم تستمر كثيراً، قال: (أيها الملك! إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء).
وهذه سقطة من عمرو بن العاص وكذبة، فمعظم المهاجرين من الأشراف العقلاء، وليسوا من الغلمان السفهاء، ولكنه سهم يضرب به للتحقير من شأن المسلمين، وفي اعتقاده أن النجاشي لن يقدم كلام الغلمان السفهاء على كلام سفارة قريش الرسمية، كان هذا هو السهم الأول لـ عمرو.
أما السهم الثاني فقال فيه: (فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك).
يعني: لا هم يريدوننا ولا حتى أنت شخصياً يريدونك، هكذا هم في تصوير عمرو بن العاص: لم يراعوا حق الأهل، ولا حق المستضيف لهم.
ثم قال في سهمه الثالث: (وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً).
يعني: أنا مرسل إليك من قبل أشراف ورؤساء وزعماء مكة، وهذه إشارة خفية بالتهديد بقطع العلاقات بين مكة والحبشة، ووقف كل المعاملات الاقتصادية والهدايا والجلود.
هذا أولاً.
ثم ثانياً: هؤلاء الأشراف هم آباؤهم وأعمامهم، يعني: لهم حق الأبوة على هؤلاء، فـ عمرو بن العاص يحاول أن يستثير أخلاق النجاشي لرد هؤلاء الأولاد إلى آبائهم.
وثالثاً: يقول له: أنت ممكن أن تنخدع بحلاوة كلامهم، لكن الذين يعلمونهم حق العلم هم الذين عاشوا معهم فترة طويلة، كما قال عمرو بن العاص: فهم أعلى بهم عيناً.
أي: انتبه ولا تنخدع بكلامهم، فالذين عاشوا معهم ثلاثين وأربعين سنة يقولون لك بأنهم يكذبون ويخدعون، ويقولون كلاماً غير موافق للحقيقة.
إذاً: تكلم عمرو بن العاص بكلمة موجزة ذكية لا تخلو من أدب جم، وكان المطلوب فيها رد المسلمين إلى مكة.
بعدما انتهى عمرو بن العاص من كلامه، وقبل أن يتكلم النجاشي تدخل البطارقة والوزراء وكبار القوم وقالوا: صدقا أيها الملك -أي: عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة - فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم.
وهؤلاء البطارقة والوزراء قد أخذوا الرشوة، وكان عمرو بن العاص يشعر بسعادة كبيرة، فكل شيء يمشي كما خطط، وكان كل مراده أن يرجع النجاشي إليه المسلمين من غير أن يسمع كلامهم ولا حجتهم؛ لأن عمراً يعرف أن كلام المسلمين جميل ومقنع، وأن معهم أسلحة لا يمكنه مواجهتها، وأهم هذه الأسلحة القرآن الكريم، لكن النجاشي ملك لا يظلم عنده أحد، وليس من العدل أن يحكم في قضية دون أن يستمع إلى الطرف الآخر.
هذه أبسط قواعد العدل في الحكم.
قال النجاشي رداً على عمرو ورداً على البطارقة الموالين والمحبين لـ عمرو: لا والله لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان -غلمان سفهاء خرجوا عن دين الآباء وفعلوا كذا وكذا- أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
ثم بعث للمسلمين الذين علموا بمجيء عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة لاستعادتهم.
اجتمع المسلمون في مجلس سريع للشورى، وقالوا: ما تقولون للنجاشي إذا جئتموه؟ قالوا: نقول: والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن، {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:64].
كانت الرؤية واضحة تماماً عند المسلمين بلا خوف أو قلق؛ لأن الخوف إنما يكون من ربنا وحسب.
هذا هو الشعور والإحساس الذي كان عند المسلمين، لا يوجد أي نوع من القلق؛ لأنهم سيقولون كلام ربنا سبحان وتعالى.
ثم اختاروا متحدثاً عنهم هو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لأمور: أولاً: أنه رئيس الوفد، ورئيس الوفد هو الممثل الرسمي للوفد، ومؤكد أنه التقى قبل ذلك بـ النجاشي، وألف الحوار معه.
ثانياً: أنه خطيب مفوه يستطيع أن يوصل كلام المسلمين بأفضل صورة ممكنة.
ثالثاً: أنه من أشرف أشراف الوفد، هاشمي قرشي، وفي هذا رد على كلمة عمرو بن العاص: إنه قد ضوى إلى بلادك غلمان سفهاء.