فالتوحيد عدل بين الإشراك والتعطيل، والقصاص من القاتل عدل بين إطلال الدماء، وبين قتل الجماعة من قبيلة القاتل، والإحسان عدل بين الشح والإسراف، فالقسط صفة للفعل في ذاته، لكي يكون ملائماً للصلاح، عاجلاً، وآجلاً - أي: سالماً من عواقب الفساد -. فقوله إذن: {أَمَرَ رَبِّي}. كلام جامع، لإبطال كل ما يزعمون أن الله أمرهم به، مما ليس من قبيل القسط.

وإذا كان القسط هو أمر الله تعالى، وكان توحيد الرب، وإجلاله، وتعظيمه، وإظهار هذا كله، من أعظم القسط، أعقبه بقوله: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي: قل أقيموا وجوهكم.

وإذا كان القصد الأول، إبطالَ بعض ما زعموا من أن الله أمرهم بالالتزام به، ففي هذا الأمر التصريح بما يرضى الله عز وجل. وهو إقامة وجوههم، دليلاً على كمال الإقبال على عبادة الله تعالى، في مواضع عبادته (?)؛ ولما لم يكن لهم في مكة حينئذ إلا المسجد الحرام، ونزلت الآية تفيد الجمع: {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} - أي: عند كل المواضع التى يستخفون بالعبادة فيها - حملت البشارة بأن ستكون لهم مساجد، يقيمون فيها وجوههم لله تعالى، وأعدهم لذلك بالتوجه إليه في معنى الإقامة، فلا يلتفتون يمنة ولا يسرة. قائمين غير متغاضين ولا متوانين، يعظمون معبودهم الحق، ويعظمون مكان عبادتهم، وأن الإشراك، والتعرى، وما كان على غير سنن التوحيد، والعبادة والنسك، والإقبال على الله تعالى، مناف لذلك مناقض له، كما كان حال المشركين يومئذ.

فكان ذلك تعليماً، وتربية، وإرشاداً، لما ينبغي أن يكون عليه الذين التزموا الدين الحق، ورفعوا راية الإيمان به.

وإن من أشهر ما وقعت عليه أبصارهم، وأبصار المشركين المدعوين للإيمان بالله

طور بواسطة نورين ميديا © 2015