ومن ثم إذا صادفنا شيء صحيح من ذلك في سيرته - وهو كثير - فدليل صدقه موجود في قصة عيسى - عليه السلام -، وأصل وجوده عمن بيده ملكوت كل شيء سبحانه، ولا يكبر عليه شيء.
وتواصل الآيات حديثها بهذا القول الجامع: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} [مريم: 33]
إنَّ أهم اللحظات التي تمر على المرء هي لحظة ولادته، ولحظة موته، ولحظة بعثه فإن وفق ونجا ختمت له بخاتمة السعادة في الآخرة، وكان في دنياه على رعاية الله وحفظه وعنايته، فما أحرى الأنبياء أن يحوزوا في ذلك الدرجة الأعلى، ومن ثم كان قوله: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} إلى آخره تنويه بكرامته عند الله، أجراه الله على لسانه ليعلموا أنه محل العناية من ربه وجيء بالسلام معرفًا باللام على الجنس مبالغة في تعلق السلام به، حتى كان جنس السلام بأجمعه عليه.
وإن كان يجوز جعل اللام للعهد أي سلام إليه، وهو كناية عن تكريم الله عبده بالثناء عليه في الملأ الأعلى وبالأمر بكرامته، ومن هذا القبيل السلام على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
ومؤذن كلامه بالتعريض بما سيقوله اليهود طعنًا فيه وشتمًا له في أحواله الثلاثة إذ قالوا: ولد من زنا، وقالوا: مات مصلوبًا، وقالوا: يحشر مع الملاحدة والكفرة لأنهم يزعمون أنه كفر بأحكام من التوراة. (?)
نكتفي من قصة عيسى - عليه السلام - بهذا المقدار الذي يبين قضية النبوة والاصطفاء، وعناية الله تعالى ورعايته لمن يجتبيهم، وإظهار الإرهاصات بين يدي مجيئهم إلى الدنيا، وتجلى كلام