كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)}. {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} ... {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} ... ، ونلتقط كلامه من آخره، إذ لم يبرئ أمه من شيء، بل كان قوله وبرًا بوالدتي يحمل أعظم معاني التبرئة فإذا به لم يشر إلى براءة أمه مع التقديس لها، والرحمة بها، إن هذا المعجز في كل شيء بار بوالدته، وهذا دليل براءتها، إذا لو كانت متهمة لنطق بإتهامها كما نطق في غيره، لأن الملهم والحامل والقاضي له بذلك هو الله ليس من نفسه أن يتكلم بما شاء، بل بما أراد الله سبحانه وتعالى أن يجريه على لسانه، لأن الله ما يقول إلا الحق وما يسكت عن باطل فضلاً عن أن يقره، أو يقف بجواره، إن ما أجري على لسانه وبدنه وحاله وقلبه هو فعل الله ومراده إلى أن رفعه إليه، إنه ما كان يتكلم أو يفعل إلا ما يمليه عليه ربه، ما ينطق عن هوى، ودليله أنه ما كان ليتكلم حين تكلم في المهد إلا بكلام الله، فلما صار نبيًا هل كان يتكلم أو يمر أو يجري على قلبه ولسانه غير مراد الله؟ لا يمكن، وما كان.
تلك حال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من باب الأولى إنه جاء ليبلغ كلمة الله تعالى، فما كان ليقول غيرها، وما كانت عناية الله إلا أن ترعاه، صبيًا وليدًا تدل عليه، وتشير إليه، وشابًا كهلاً، ورسولاً نبيًا إلى أن يلقى ربه، ليس له من نفسه، ولا من كلامه وفعله حظ أو نصيب؛ إذ كل ذلك توجيه الله سبحانه له، لذا يقول: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)} [الأنعام: 50].
فمفتاح شخصية الرسول إذاً أنه يقول عن الله ويجاهد لتتحقق كلمة الله، ويأخذ أهبته، ويستعد بكل سبب من الأسباب المشروعة للتبليغ عن الله لا يبالي بشيء ولا يروعه شيء ولا يوقفه شيء، لأن مصدر كل ذلك هو الله جل وعلا، فلا يمكن أن يزيد على قوله أو ينقص أو يخفي، أو أن يعصي في شيء، نحن نؤمن به إذاً لأنه مصطفى من الله تعالى الاصطفاء الذي يرهص له، ويلازمه، ولأن كلمة الله هي المقولة على لسانه.