وإن هذا الفصل كسابقه يأخذ التنزل التاريخي للقرآن الكريم في الاعتبار وذلك أدعى لمواءمة هذا التدرج في السيرة من المولد إلى البعثة ... وليوضح تلك العلامات البارزة وغير البارزة في سيرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما يقولون.
من الجدير أن أقول - بحق هنا -: إنني لم أمتثل لعقدة الخواجة التي روج لها في بلاد الإسلام ذيول المستشرقين والمستغربين في دراسة السيرة وغيرها من علوم الإسلام، ولكنني ملت إلى الحق والإنصاف - واضعًا نصب عيني البحث ما وصل إليه المسلمون من صحيح الأخبار، آخذًا بها، ضاربًا عرض الحائط بما يخالفها مما لا وجه له من كلام المستشرقين خاصة إذا كان يظهر العلم والأمانة، ويبطن التعصب الذميم، والتحامل الفج، مع سوء التوجيه للأخبار والمواقف، والتطاول وعدم الأدب مع القرآن الكريم والرسول المعظم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مع نقد هذا الكلام وهذه الآراء في نفس الوقت نقدًا نزيهًا، يرمي إلى تبيين الصواب ودحض الخطأ والباطل.
ثمة عنصر جديد آخر قد أضيف إلى البحث، وهو الاستدلال بما وقع للأنبياء وأتباعهم على كون مثله يمكن أن يحدث للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، إذ إن الله قد أمره بأن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، كما سنبين ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى، علاوة على أن قصصهم كان عبرة لأولي الألباب، وبالتالي فمن باب الأولى أن تكون سيرته العطرة كذلك، ومن ثم كان إثبات أن مثل هذه الأحداث قد وقعت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه مما لا جدال فيه، ودليله كما يبدو إجمالاً الآن، وتفصيلاً بعد ذلك في غاية القوة. وفيه كذلك رد من القرآن الكريم نفسه على نفاة تلك الوقائع أو الاعتراض تاريخيًا أو غيره على صحة هذه الأحداث.
ونبدأ بعرض السيرة النبوية، مع ما ذكرنا: