قصور كبير يمنع إمكان الاعتماد على هذه الدراسات خاصة في عصر السيرة حيث تتطابق النظريات الإسلامية مع الواقع التاريخي.
3 - تقويم الحضارة يرتبط بمدى ملاءمتها لعبادة الله: إن المؤرخ المسلم لا يحكم على المستوى الذي تبلغه أيه حضارة من خلال منجزاتها المادية فقط، وإنما ينظر إلى مدى تحقيقها للهدف الأساسي الذي وضعه "الخالق" عز وجل لـ "خلقه"، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. فالحضارة السامية في نظر المسلمين هي التي تهيئ الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمادية الملائمة لتوجه الإنسان نحو توحيد الله وإفراده بالعبودية والتزام تعاليمه في كل ألوان النشاط الذي يمارسه، دون أن تعيقه المؤسسات والأجهزة القائمة في المجتمع أو توقعه في التناقض بين "عقيدته" و"سلوكه" ودون أن تضغط عليه لتحرفه عن التزامه أمام رب العالمين. لذلك مهما تقدمت الحضارة في العلوم والمعارف والآداب والفنون، ومهما تفننت في ريازة الدور والقصور وفي الأثاث واللباس والطعام .. وفي تيسير الحياة المادية الرخية للإنسان، أقول مهما وصلت الحضارة في التقدم المادي فإنها تبقى في نظر المؤرخ المسلم "متخلفة" و"قاصرة" ما دامت لا تهيئ الظروف الملائمة لعبادة الله والوفاء بالالتزام بشرعه. والحضارة الإسلامية نفسها مرت بمراحل تاريخية مختلفة .. ولا شك أن التضخم في منجزاتها المادية لم يكن في صدر الإسلام بل كان في القرنين الثالث والرابع الهجريين، لذلك فإن المؤرخ الغربي آدم ميتز يرى أن القرن الرابع الهجري يمثل أوج الحضارة الإسلامية في حين أن المؤرخ المسلم يرى أن عصر صدر الإسلام يمثل أوج الحضارة لأنه أكثر ملاءمة لعبادة الله وتوحيده، وسلوك المسلمين في صدر الإسلام أكثر التزاماً بتعاليم الشريعة من سلوك المسلمين في القرن الرابع الهجري، وهذا ما أشار إليه الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في حديثه: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".