ولذلك هذه الآية الكريمة -آية المداينة- تبين لنا أن إجراء الشهادة على الدين إنما يكون ذلك بالنسبة للدين المؤجل؛ أما إذا كانت التجارة حاضرة وليس هناك دين فليس هناك ما يدعو إلى هذا الإشهاد؛ وهذا دليل على أن الإسلام لا يريد ولا يرغب في المبالغة في إجراءات العمل، وخطوات إنتاجه، ولا بالشكليات والإجراءات التي لا لزوم لها.
وعليه: فالإسلام يحارب الإسراف في استخدام المكاتبات الورقية في المعاملات؛ وهي تمثل أسوأ أمراض الإدارة، التي تعكس النزوع إلى التعقيدات المكتبية، سمة بَيروقراطية السائدة في الدول النامية، نجد الإسلام يدعو إلى تيسير العمل وتبسيطه، ويستنكر التشدد والتنطع في العمل، وهو ما يستفاد من حديث رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الدين يسر، ولن يُشادَّ أحد هذا الدين إلا غلبه، ولكن سددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة، وشيء من الدلجة)) إذ يدعو -صلوات الله وسلامه عليه- إلى القصد والاعتدال في العبادة في غير تشدد، أو إهمال، ولا شك أن الأعمال كلها إنما هي تدخل ضمن العبادات.
وطبقًا للمفهوم الشامل للعبادة -الذي انتهينا إليه آنفًا- تعتبر خدمات الجماهير من قبيل العبادة الواجب عقيدة، تحديد إجراءات أدائها بما لا يؤدي إلى إنعات أو إرهاق لطالبيها؛ ولا يخل بسلامة وجودة إنجازها، أي: دون إفراط، أو تفريط.
ويرتبط بإتقان العمل وتبسيطه أن يكون مقدورًا؛ إعمالًا لقاعدة الإسلام الإنسانية: لا تكليف إلا بمقدور، وفي ذلك يقول ربنا -سبحانه وتعالى- {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية: 233) وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: من الآية:286) وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (البقرة: من الآية: 286) فلا إرهاق يضر العامل بدنيًّا، أو ذِهنيًّا.