الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد: يقول الله سبحانه وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وإذا أتى أمر من الله عز وجل في حق من هو قدوة فيتضمن ذلك أمر هؤلاء المقتدين بأن يستمعوا ويمتثلوا ذلك الأمر؛ فإن الله عز وجل عندما ذكر في سورة الأنعام جملة عظيمة من الأنبياء في معرض الثناء عليهم، قال لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم عقب ذلك: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فهذا أمر من الله عز وجل لنبينا عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بالأنبياء، وهو أمر لنا؛ لأنه أسوة لنا كما قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، وقال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7]، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني طاعته في كل ما أمر به إلا ما قام فيه دليل على الخصوصية، وهذا واضح يمكن أن يستنبط من القرآن، فإنك إذا تأملت مثلاً قوله عز وجل في أول سورة الطلاق: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، فالخطاب بدأ أولاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك دخل فيه الخطاب لأمَّته عليه الصلاة والسلام؛ بدليل قوله: ((إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ))، فالخطاب هنا بالجمع في قوله: ((طَلَّقْتُمُ))، فهو موجّه لعموم الأمة، وهذا يدل على دخول النبي وأمته في هذا الحكم.
ويقول عز وجل في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]، ثم قال بعد ذلك: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2]، فدلّ هذا على عموم حكم الخطاب هنا، وأنه ليس فقط في حق النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو يشمل أمته تبعاً.
وفي سورة الأحزاب يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]، ثم قال بعد ذلك في الآية الثانية: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب:2] فدلّ هذا على دخول الأمة كلها في خطابه صلى الله عليه وآله وسلم.
ويقول عز وجل: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} [يونس:61]، ثم قال عز وجل: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} [يونس:61].
أما أصرح الأدلة في ذلك فإنها آية في سورة الروم وآية في سورة الأحزاب: فأما التي في سورة الروم: فهي قوله عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم:30]، ثم بعد ذلك قال: ((مُنِيبِينَ إِلَيْهِ))، فالخطاب أولاً للنبي عليه الصلاة السلام، ثم انتهى الكلام بقوله عز وجل: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم:31]، فدلّ هذا على دخول الأمة أيضاً في ذلك فصار المعنى: فأقم وجهك يا نبي الله للدين حنيفاً في حال كونكم منيبين إليه، فلو لم تدخل الأمة حكماً في الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم لقال: (منيباً إليه) لكنه قال: ((مُنِيبِينَ إِلَيْهِ)).
أما آية الأحزاب: فهي قوله عز وجل في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37]، وهذا خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الآية تصرح بشموله لجميع المؤمنين في قوله عز وجل: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [الأحزاب:37]، وقال عز وجل: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، فلو كان الحكم خاصاً بالنبي عليه الصلاة والسلام لما احتيج أن يقول: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، لكن أتى بهذا القيد حتى يكون الحكم خاصاً به عليه الصلاة والسلام وإلا لكان عاماً للجميع.