ننقل ههنا فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، كما جاء في مجموع الفتاوى الجزء (21) صفحة (115)، حيث سأله سائل عن بدعة من بدع الصوفية، وهي أنهم إذا أتاهم الرجل وتوّبوه فإنهم يأتون بحلاق -وهو حلاق مخصوص لمثل هذا- فيحلق له رأسه كشيء من مقدمات التوبة عندهم، وهذا من البدع التي ابتدعوها في التوبة.
هذا السائل يسأل شيخ الإسلام عن هذا العمل، فيقول: ما تقول السادة العلماء رضي الله عنهم أجمعين، في أقوام يحلقون رءوسهم على أيدي الأشياخ وعند القبور التي يعظمونها، ويعدون ذلك قربة وعبادة، فهل هذا سنة أو بدعة؟ وهل حلق الرأس مطلقاً سنة أو بدعة؟ أفتونا مأجورين؟ فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: الحمد لله رب العالمين.
حلق الرأس على أربعة أنواع: أحدها: حلقه في الحج والعمرة، فهذا مما أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مشروع ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح:27]، وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه حلق رأسه في حجّه وفي عُمَرِه، وكذلك أصحابه: منهم من حلق، ومنهم من قصر.
والحلق أفضل من التقصير، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله! والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله! والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله! والمقصرين؟ قال: والمقصرين).
قلت: فهذا دليل على أفضلية الحلق لوجه الله عز وجل، وهو من أنواع العبودية والمناسك التي لا ينبغي أن تصرف إلا لله عز وجل، ومن صدق إيمانه ويقينه في ثواب الله عز وجل وفَعَل ذلك، فينبغي له ألا يبالي باستنكار الجَهَلة لحلاقة شعر رأسه.
يقول شيخ الإسلام: وقد أمر الصحابة الذين لم يسوقوا الهدي في حجة الوداع أن يقصروا رءوسهم للعمرة إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يحلقوا إذا قضوا الحج، فجمع لهم بين التقصير أولاً، وبين الحلق ثانياً.
والنوع الثاني: حلق الرأس للحاجة، مثل أن يحلقه للتداوي، فهذا أيضاً جائز بالكتاب والسنة والإجماع، فإن الله عز وجل رخص للمحرم الذي لا يجوز له حلق رأسه أن يحلقه إذا كان به أذى، كما قال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196].
وقد ثبت باتفاق المسلمين حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه لما مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية، والقمل ينهال من رأسه، فقال: (أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم، فقال: احلق رأسك، وانسك شاة أو صُم ثلاثة أيام، أو أطعم فرقاً بين ستة مساكين)، وهذا الحديث متفق على صحته، متلقى بالقبول من جميع المسلمين.
قلت: فمن كان في حالة النسك، وأصابه المرض، فقد أباح له الله سبحانه أن يحلق رأسه ويفتدي بما جاء في سورة البقرة (آية: 196).
فهذا هو النوع الثاني الذي ذكره شيخ الإسلام، وهو حلق الرأس للحاجة كالتداوي، فهذا يدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله)، وهذا من التداوي، فلا بأس به.
يقول شيخ الإسلام: النوع الثالث: حلقه على وجه التعبد والتدين والزهد في غير حج ولا عمرة، مثلما يأمر بعضُ الناس التائب إذا تاب بحلق رأسه، ومثل أن يجعل حلق الرأس شعار أهل النسك والدين، أو من تمام الزهد والعبادة، أو أن يجعل من يحلق رأسه أفضل ممن لم يحلقه، أو أَدْينَ أو أَزْهدَ، أو أن يقصّر من شعر التائب، كما يفعل بعض المنتسبين إلى المشيخة إذا توب أحداً أن يقص بعض شعره، ويعين الشيخ صاحب مقص وسجادة، فيجعل صلاته على السجادة، وقصَّهِ رءوس الناس من تمام المشيخة التي يصلح بها أن يكون قدوة يتوب التائبين، فهذا بدعة لم يأمر الله بها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وليست واجبة ولا مستحبة عند أحد من أئمة الدين، ولا فَعَلها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا شيوخ المسلمين المشهورين بالزهد والعبادة لا من الصحابة ولا من التابعين ولا تابعيهم ومن بعدهم، مثل الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وأحمد بن أبي الحواري والسري السقطي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري، وأمثال هؤلاء، لم يكن هؤلاء يقصون شعر أحد إذا تاب، ولا يأمرون التائب أن يحلق رأسه.
وقد أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جميع أهل الأرض -حيث أن أعظم التوبة هي التوبة من الكفر والدخول في الإسلام- ولم يكن يأمرهم بحلق رءوسهم إذا أسلموا، ولا قص النبي صلى الله عليه وسلم رأس أحد، ولا كان يصلي على سجادة، بل كان يصلي إماماً بجميع المسلمين، يصلي على ما يصلون عليه، ويقعد على ما يقعدون عليه، لم يكن متميزاً عنهم بشيء يقعد عليه، لا سجادة ولا غيره، ولكن يسجد أحياناً على الخميرة، وهو شيء يصنع من الخوص الصغير، يسجد عليها أحياناً؛ لأن المسجد لم يكن مفروشاً، بل كانوا يصلون على الرمل والحصى.
قلت: والآن يخصون الإمام بسجادة مليئة بأنواع الألوان والزخارف التي تشغل قلبه، هذه بدعة من البدع؛ لأنها مما لم يكن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول شيخ الإسلام: بل كانوا يُصلّون على الرمل والحصى، وكان أكثر الأوقات يسجد على الأرض، حتى يبين الطين في جبهته صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً.
ومن اعتقد البدع التي ليست واجبة ولا مستحبة قربة وطاعة وطريقاً إلى الله، وجعلها من تمام الدين، ومما يؤمر به التائب والزاهد والعابد، فهو ضال خارج عن سبيل الرحمن، متّبع لخطوات الشيطان.
قلت: فهذا فيما يتعلق بالنوع الثالث، وهو حلقه على وجه التعبد والتدين والزهد من غير حج ولا عمرة، فهذه بدعة وضلالة.
يقول شيخ الإسلام: النوع الرابع: أن يحلق رأسه في غير النسك -يعني: لا في حج ولا عمرة- لغير حاجة ولا على وجه التقرب والتدين، فهذا فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: أنه مكروه، وهو مذهب مالك وغيره.
قلت: بالنسبة للرواية الأولى عن الإمام أحمد -أي: أن هذا مكروه- فقد استدل لهذه الرواية بما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في شأن الخوارج: (سيماهم التحليق)، فجعل التحليق علامة للخوارج، وكما في أثر عمر رضي الله عنه حينما قال لـ صبيغ بن عسل: (لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك بالسيف)؛ لأنه لو كان محلوق الرأس، فهذا يدل على أنه من الخوارج، وكانت هذه عادتهم.
ومن أدلّة من قالوا بالكراهة: ما جاء في حديث: (ليس منا من حلق)، إلى آخر الحديث.
وقد أجاب بعض العلماء على الاستدلال بهذا الحديث بقولهم: سياق الحديث جاء في النهي عن الحلق عند المصيبة، سواء من الرجال أو النساء؛ لأن فيه إظهار للجزع.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنه يباح حلق شعر الرأس في غير النسك من غير حاجة ولا على وجه التقرب والتدين.
وهذا -والله أعلم- أقرب وأصح؛ لقول حافظ المغرب الإمام أبي عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: أجمع العلماء على إباحة حلق الرأس في غير حاجة.
وكفى بهذا حجة.
يقول شيخ الإسلام: والثاني: أنه مباح.
وهو المعروف عند أصحاب أبي حنيفة والشافعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى غلاماً قد حلق بعض رأسه، فقال: (احلقوه كله، أو دعوه كله).
قلت: فقوله: (احلقوه كله)، يدل على إباحة هذا الحلق.
وأُتي -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- بأولاد صغار بعد ثلاث، فحلق رءوسهم.
قلت: يشير شيخ الإسلام هنا إلى ما صح عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء نعي جعفر، أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم.
ثم قال: ادعوا بني أخي.
فجيء بنا، قال: ادعوا لي الحالق.
فأمر بنا، فحلق رءوسنا).
وهذا أيضاً من الأدلة على إباحة الحلق في مثل هذه الحالة.
وعن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ولي شعر طويل، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: ذباب ذباب)، والذباب في مثل هذا السياق يراد به: الشؤم، يقال: رجل ذبابي.
قال: (فرجعت فجزرته، ثم أتيته من الغد فقال: إني لم أعْنِك، وهذا أحسن)، أي: لم أكن أقصدك بقولي: ذباب ذباب.
وقوله: (وهذا أحسن) أي: ما دام أنك قد حلقته فهذا أحسن مما كنت عليه.
وهذا الحديث رواه أبو داود والإمام أحمد والبغوي في شرح السنة، وذكر محققه أن إسناده يقبل التحسين.
وهناك فرق بين الحلق والقص، فإن الحلق يكون بالموس، وأما القصّ فيكون بالمقص أو بما دون ذلك مثل ماكنة الحلاقة المعروفة، والأفصح في لفظ المقص أن تقول: مقصّين؛ لأن المقص مكون من حدّين.
يقول ابن قدامة: وأما استئصال الشعر بالمقراض فغير مكروه، رواية واحدة عن الإمام أحمد، قال أحمد: إنما كرهوا الحلق بالموس، وأما بالمقراض فليس به بأس؛ لأن أدلة الكراهة تختص بالحلق.
فهذا خلاصة الكلام فيما يتعلق بأدلة هذا القول.
يقول شيخ الإسلام مضيفاً إلى هذه الأدلة: ولأنه نهى عن القزع، والقزع: حلق