هذا أدب شرعي مهجور، ومن تمكن من أداء هذا الأدب فسوف يذوق حلاوته ويجد له طعماً عظيماً، ويتملكه الإحساس بتكريم الإنسان، كما في قول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، هذا الأدب الذي قد يستغربه كثير من الناس في هذا الزمان، وهو: أنه يستحب للإنسان دفن ما قلّم من أظفاره أو أزال من شعره، وكل ما ينفصل عن بدن الإنسان في حياته فمن الأدب أن يدفنه في التراب.
يقول مهنأ: سألت أحمد عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه، قلت: بلغك فيه شيء؟ قال: كان ابن عمر يدفنه.
وقال القرطبي رحمه الله: جسد المؤمن ذو حرمة، فما سقط منه وزال عنه فيحق عليه أن يدفنه.
لأن الإنسان لو مات فإنه يدفن، فإذا مات بعضه فكذلك أيضاً تقام حرمته بدفنه، كي لا يتفرق ولا يقع في النار أو في مزابل قذرة، وبالذات المسلم الذي كرمه الله عز وجل بصفة الإسلام إلى جانب صفة الإنسانية، فينبغي له ألا يلقي هذه الأشياء التي انفصلت عن جسده في الأماكن القذرة أو المهينة، وإنما يدفنها كما يُدفن بدنه عند موته.
وحكى السفاريني عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى في قول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26] قال: يلقون فيها الدم والشعر والأظافر وهم أحياء، وتدفنون فيها موتاكم.
وإذا راجعت تفسير هذه الآية فإنك تجد أن هذا القول مشهور في تفسيرها، ويذكره المفسرون ضمن عدة أوجه في تفسير هذه الآية: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:25] والكفت: الضم والجمع، أي: تضمكم وتجمعكم، وفي الحديث: (نهى عن الكفت في الصلاة)، والكفت: الضم، أي: يضم ثيابه، وهذا الفعل مكروه في الصلاة.
ولا أدري لماذا يقوم كثير من الإخوة بارك الله فيهم أحياناً باختراع عمل ليس له أصل؟ ثم نجد كثيراً من الناس يقلدونه تقليداً تلقائياً، حتى ينتشر هذا الفعل ويشيع، مع أنه لا يعرف لهذا الفعل دليل ولا أصل، فما ندري من أين أتت لبعض المصلين فكرة أنه إذا كان يرتدي سروالاً طويلاً يتجاوز الكعبين، فإذا أراد أن يصلي أخذ يشمر ويكفت السروال؛ لأنه يخاف من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يقبل صلاة المسبل) أو (لا ينظر الله إلى مسبل)، فهو يريد ألا يقع في هذا الوعيد، فيصبح حاله كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ لأنه فرّ من وعيد الإسبال فوقع في الكفت، والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الكفت، فلا يصح لك أن تصلي وأنت مشمّر أكمامك، بل إنك إذا شرعت في الصلاة عليك أن تفك هذا التشمير، كما قال عليه الصلاة والسلام للرجل الذي سجد وشعره معقود: (دعه يسجد معك) فكذلك من صور كفت الثياب في الصلاة ما يفعله هؤلاء الإخوة الذين يتناقلون هذه العادة بعضهم عن بعض، ولا يُعرف لها أصل، والذي قادنا إلى هذا الاستطراد هو معنى كلمة: الكفت، أي: الضم، ومنها التشمير في الصلاة.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:25] أي: ضامّة تضم الأحياء على ظهورها والأموات في بطنها، وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه، يقال: كفتُّ الشيء أكفته: إذا جمعُته وضممْتُه، والكفت: الضم والجمع، وقال أبو عبيد: ((كِفَاتًا)) أوعية.
ثم قال القرطبي: وقيل: هي كِفات للأحياء، يعني: دفن ما يخرج من الإنسان من الفضلات في الأرض، إذ لا ضمّ في كون الناس عليها، والضمّ يشير إلى الاحتفاف من جميع الوجوه.
الاحتفاف: أي أنها تحف بالشيء وتضمه، وكان بعض السلف يأتي المقابر فيقول: هذه كفات الأموات.
ويأتي المنازل والبيوت فيقول: هذه كفات الأحياء.
والإمام القرطبي رحمه الله يعرض قول من قال: إنها لا تسمى كفاتاً إلا إذا احتفت بالشيء وضمّته ضمّاً كاملاً، وهذا لا يكون إلا في الدفن.
وهنا مسألة تعرض لها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهي تتعلق بحكم إزالة الإنسان لشيء من جسده وهو جنب، فقد سُئل رحمه الله تعالى عن الرجل إذا كان جُنُباً وقصّ ظفره أو شاربه، أو مشط رأسه، هل عليه شيء في ذلك؟ فأجاب: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حديث حذيفة ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنهما أنه لما ذكر له الجنب قال: (إن المؤمن لا ينجس)، وفي صحيح الحاكم زيادة: (حياً ولا ميتاً)، وما أعلم على كراهية إزالة شعر الجنب وظفره دليلاً شرعياً، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أسلم: (ألق عنك شعر الكفر واختتن)، فأمر الذي أسلم أن يغتسل، ولم يأمره بتأخير الاختتان وإزالة الشعر عن الاغتسال، فإطلاق كلامه يقتضي جواز الأمرين، حيث قال له: (ألق عنك شعر الكفر واختتن)، وكذلك تؤمر الحائض بالامتشاط في غسلها، مع أن الامتشاط يذهب ببعض الشعر، والله أعلم.
اهـ.