اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في حكم حلق الرأس، فجاء عنه: أنه مكروه؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الخوارج: (سيماهم التحليق) أي أن الإمام أحمد كره حلق الرأس إطلاقاً، قال: إنه يكون في هذه الحالة تشبه بالخوارج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله علامة للخوارج حينما قال فيهم: (سيماهم التحليق)، وهذا يحتمل أنهم يتعبدون بحلق الرأس.
وقال عمر لـ صبيغ: لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك بالسيف.
قوله: (الذي فيه عيناك) أي: وجهك، وصبيغ بن عسل هو رجل من أهل العراق، كان يكثر السؤال عن المتشابهات، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأتاه يوماً فسأله عن بعض الآيات المتشابهات في القرآن، فقال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله: صبيغ، قال: وأنا عبد الله: عمر، فقام بالدَّرّة، وظل يضربه حتى أوجعه، ثم حبسه إلى أن برئ، ثم أتى به مرة ثانية وعاقبه، ثم تركه حتى برئ، ثم أتى به بعد ذلك أيضاً ليعاقبه، فقال له صبيغ: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد شفائي فقد والله برئتُ، وإن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً.
فتركه أمير المؤمنين رضي الله عنه، وأمر الناس بمقاطعته، وألّا يكلمه أحد، فشقّ ذلك عليه، وأُرسل إلى أمير المؤمنين فيه: أنه قد حسنت توبته، فأذن له حينئذٍ في مخاطبة الناس.
هذا خبره مختصراً.
وقد قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عندما قابل صبيغاً: لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك بالسيف.
لأنه لو كان محلوقاً إذاً لكانت هذه قرينة تدل على أنه من الخوارج الأشرار الذين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقال فيهم: (طوبى لمن قتلهم أو قتلوه).
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا توضع النواصي إلا في حج أو عمرة) رواه الدارقطني في الأفراد.
وفي بعض الأحاديث: (ليس منا من حلق)، وقال ابن عباس: الذي يحلق رأسه في المصر -يعني: في حالة الإقامة في بلده- شيطان.
أما في حجة أو عمرة فهذا مستحب.
وقال أحمد: كانوا يكرهون ذلك.
فكل هذه الأدلة استدل بها الإمام أحمد على كراهة حلق واستئصال شعر الرأس.
وفي رواية عن الإمام أحمد: لا يكره حلق الرأس، لكن تركه أفضل.
قال: حنبل بن إسحاق: كنت أنا وأبي نحلق رءوسنا في حياة أبي عبد الله، فيرانا ونحن نحلق، فلا ينهانا، وكان هو يأخذ رأسه بالجلمين، ولا يحفيه، ويأخذه وسطاً.
أي: كما نفعله نحن الآن بأن يأخذه بالوسط، فلا يستئصله ولا يكثره.
وروى ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى غلاماً قد حلق بعض رأسه وترك بعضه، فنهاه عن ذلك) رواه مسلم.
وهذا الفعل اسمه: القزع، وفي لفظ قال: (احلقه كله أو دعه كله).
وروي عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء نعي جعفر أمهل آل جعفر ثلاثة أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ثم قال: ادعو بني أخي، فجيء بنا، قال: ادعو لي الحالق، فأمر بنا فحلق رءوسنا).
ولأنه لا يكره استئصال الشعر بالمقراض.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من حلق)، يعني: أن يحلق الإنسان شعره بسبب نزول المصيبة، وأحياناً قد يكون الأمر بالعكس، فعندما تأتي المصيبة يترك بعض الناس شعره لنزول المصيبة به.
وبعض الناس قد يموت قريب له أو عزيز عليه، فتجده يعفي لحيته، فهذا يدخل فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من نشر الشعر لحزن أو جزع من قضاء الله؛ لأن هذا الذي أعفى لحيته في المصيبة ما فعل ذلك لوجه الله، ولا امتثالاً لأمره، بل جزعاً فقط، والجزع محرم، ثم إن هذا الذي يترك لحيته ينبغي عليه أن يعفيها، لكن ليس في المصيبة فقط، بل في كل حال من الأحوال؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر ببقائها وإعفائها، والشرع حرم حلقها.
ولا ينبغي أن يجمع بين هذين الأمرين: أولاً: أنه ينشر شعره في حال المصيبة فإذا مضت عاد إلى معصية حلق شعره، وفي الحديث: (ليس منا من حلق أو صلق أو خرق).
قوله: (حلق) أي: يحلق شعره عند المصيبة جزعاً، (أو صلق) والصالقة: هي التي تصوت صوتاً عالياً عند وقوع المعصية، (أو خرق)، يعني: مزّق -والعياذ بالله- ثيابه؛ جزعاً لقضاء الله عز وجل! قال ابن عبد البر: وقد أجمع العلماء على إباحة الحلق، وكفى بهذا حجة -أي: حلق شعر الرأس للرجل فقط- وأما استئصال الشعر بالمقراض فغير مكروه رواية واحدة، قال أحمد: إنما كرهوا الحلق بالموس، وأما بالمقراض فليس فيه بأس؛ لأن أدلة الكراهة تختص بالحلق.