فما أكثر ما نأكل من الأطعمة التي وقف عليها كل يوم من حيث لا ندري، أو من حيث ندري ونكتفي بطرده، فالتأفف والتقزُّزُ أو القبول يرتبط بالعادة والإلف.
وإذا كانت تلك حالنا في حضارتنا ومستوانا ومدنيتنا فكيف حال أهلنا في الريف؟ وما يفعل الفقراء واللاجئون في الصحراء والخيام؟
هبْ أنَّ الحديث أمر بإراقة الطعام والشراب إذا وقع فيه الذباب، وهُمْ لا يملكون إلاَّ كوباً واحداً من اللبن في اليوم، يقع فيه الذباب؟ أيموتُون جوعاً وعطشاً؟
ثم لنفرض أنَّ مسلماً يملك غير الكوب وغير الشراب، لكنه لا يستطيع محاربة الذباب، ولا منعه من أي كوب، ولا عن أي شراب، بماذا تنصحه؟
ليست صورة خيالية أو نادرة، بل واقعية وكثيرة، وقد عِشتُها عامين كاملين في (نَجْد) بالسعودية حين كنتُ مُعاراً سنة 1953، فكنا لا نستطيع أنْ نأكل طعاماً أو نشرب شراباً في ضوء النهار بسبب الذباب الذي يقاتلنا، نعم يقاتلنا بما تحمل العبارة من معان، لقد كنا - بدون مبالغة - نضع فمنا على فم الكوب نغلقه فيما عدا مكان الشفاه، فيهاجم الكوب من كل مكان الشفاه ومع الشفاه، ولم يكن يؤثِّرُ فيه أي مُبيد حشري.
فهل التشريع السمح الذي يرفع الحرج والضيق عن الناس يوصف بالجهل والخطأ يقابل بالرفض والرد والتكذيب؟
أم يوصف بالحكمة والسماحة والإحسان!!!؟