وبلغ من حرص بعض المحدثين على لفظ الحديث أنهم لم يكونوا يحدثون طلابهم إلا إذا كتبوا عنهم، إذ كانوا يكرهون أن يحفظوا عنهم، خَوْفًا من الوهم عليهم، من هذا ما يرويه الخطيب البغدادي بسنده عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو: «لاَ وَاللَّهِ لاَ أُحَدِّثُكُمْ حَتَّى تَكْتُبُوهُ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَكْذِبُوا عَلَيَّ - وَفِي رِوَايَةٍ -: أَخَافُ أَنْ تَغْلُطُوا عَلَيَّ» (?).
ومنه ما رواه الرامهرمزي بسنده عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: «أَتَيْتُ القَاسِمَ وَسَأَلْتُهُ عَنْ أَشْيَاءَ، فَقُلْتُ: أَكْتُبُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لابْنِهِ: " انْظُرْ فِي كِتَابِهِ، لاَ يَزِيدُ عَلَيَّ شَيْئًا "، قُلْتُ: " يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنِّي لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَكْذُبَ لَمْ آتِكَ "، قَالَ: " إِنِّي لَمْ أُرِدْ، إِنَّمَا أَرَدْتُ إِنْ أَسْقَطْتَ شَيْئًا يُعَدِّلْهُ لَكَ "» (?).
وَكَانَ الأَعْمَشَ يَقُولُ: «كَانَ هَذَا الْعِلْمُ عِنْدَ أَقْوَامٍ، كَانَ أَحَدُهُمْ لأَنْ يَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ وَاوًا، أَوْ أَلِفًا، أَوْ دَالاً ... » (?).
وَقَدْ أَدْرَكَ اِبْنُ عَوْنٍ ثَلاَثَةَ مِمَّنْ يَتَشَدَّدُونَ فِي رِوَايَةِ اَلحَدِيثِ عَلَى حُرُوفِهِ , وَهُمْ اَلْقَاسِمُ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالْحِجَازِ , وَمُحَمَّدٍ بْنِ سِيرِين بِالبَصْرَةِ , وَرَجَاء بْنِ حَيْوَةَ بِالشَّامِ (?)، وكان إبراهيم بن ميسرة وطاووس يحدثان الحديث على حروفه (?)، وَكَانَ طَاوُسٌ يَعُدُّ الحَدِيثَ حَرْفًا حَرْفًا (?). وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَوْلَهُ: «مُحَدِّثُو الحِجَازِ ابْنُ شِهَابٍ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ يَجِيئُونَ بِالحَدِيثِ عَلَى