ومما يؤكد لنا أنه لم يحبس أحدًا - وهو ما استنبطناه من مناقشة الروايات السابقة - ما يرويه الرامهرمزي عن شيخه ابْنِ البُرِّيِّ من طريق سعد بن إبراهيم عن أبيه (*): أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، حَبَسَ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ فَقَالَ: «قَدْ أَكْثَرْتُمُ الحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ البُرِّيِّ: يَعْنِي مَنَعَهُمُ الحَدِيثَ، وَلَمْ يَكُنْ لِعُمَرَ حَبْسٌ (?).

فقد فَسَّرَ ابْنُ البُرِّيِّ الخبر تَفْسِيرًا جَيِّدًا وَإِنْ جَاءَ مُقْتَضَبًا، فهو يريد أنه منعهم كثرة الحديث، خَوْفًا مِنْ أَنْ لاَ يَتَدَبَّرَ السامعون كلام رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - إذا كثر عليهم.

كل ما سبق ينفي صحة ما ورد من أخبار حول حبس عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - للصحابة لأنهم أكثروا الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وفي عهد التابعين ازداد النشاط العلمي لانتشار الصحابة في الأمصار، ثم ما لبث التابعون أَنْ تَصَدَّرُوا للرواية، ومع هذا سلكوا سبيل الصحابة، وساروا على نهجهم، فكانوا على جانب عظيم من الورع والتقوى، وليس بَعِيدًا ما تقول، لأنهم تَخَرَّجُوا في مدارس الصحابة تلامذة رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، فنسمع الشعبي - وهو أحد كبار التابعين الحفاظ الثقات - يقول: «لَيْتَنِي انْفَلَتُّ مِنْ عِلْمِي كَفَافًا لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِي» (?). وكأنه يشعر بأنه أكثر من التحديث فيقول: «كَرِهَ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُونَ الإِكْثَارَ مِنَ الحَدِيثِ، وَلَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا حَدَّثْتُ إِلاَّ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الحَدِيثِ (?)». وكان شُعْبِةُ بْنُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015