الْإِيذَاءُ أَوَّلًا ثُمَّ نُسِخَ بِالْإِمْسَاكِ وَلَكِنْ التِّلَاوَةُ أُخِّرَتْ. قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: وَهَذَا الْإِمْسَاكُ وَالْحَبْسُ فِي الْبُيُوتِ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَكْثُرَ الْخَنَا فَلَمَّا كَثُرُوا وَخُشِيَ قُوَّتُهُمْ اُتُّخِذَ لَهُمْ سِجْنٌ.
وَمَعْنَى {يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] يَأْخُذُهُنَّ أَوْ يَتَوَفَّاهُنَّ مَلَائِكَتُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32] وَأَوْ فِي (أَوْ يَجْعَلَ) إمَّا عَاطِفَةٌ فَالْجَعْلُ غَايَةٌ لِإِمْسَاكِهِنَّ أَيْضًا، أَوْ بِمَعْنَى إلَّا فَلَيْسَ غَايَةً. وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: أَنَّهُ جَلَدَ سُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ مِائَةً، ثُمَّ رَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالَ: جَلَدْتهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتهمَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ يَدْخُلُ فِي الرَّجْمِ «لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ وَلَمْ يَجْلِدْهُمَا. وَقَالَ لِأُنَيْسٍ: امْضِ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْجَلْدِ» . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ التَّغْرِيبَ مَنْسُوخٌ فِي حَقِّ الْبِكْرِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثُبُوتِهِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَكَذَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَبْسِ فِي الْبَيْتِ، فَقِيلَ كَانَ تَوَعُّدًا بِالْحَدِّ لَا حَدًّا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: إنَّهُ حَدٌّ، زَادَ ابْنُ زَيْدٍ وَأَنَّهُنَّ مُنِعْنَ مِنْ النِّكَاحِ حَتَّى يَمُتْنَ عُقُوبَةً لَهُنَّ حِينَ طَلَبْنَ النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَدًّا بَلْ أَشَدُّ غَيْرَ أَنَّهُ حَدٌّ إلَى غَايَةٍ هِيَ الْأَذَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى عَلَى اخْتِلَافِ التَّأْوِيلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَكِلَاهُمَا مَمْدُودٌ إلَى غَايَةٍ هِيَ الْجَلْدُ أَوْ الرَّجْمُ كَمَا بَيَّنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: «خُذُوا عَنِّي» إلَخْ. وَحِينَئِذٍ فَلَا نَسْخَ فِي الْآيَةِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لِأَنَّهَا عَلَى حَدِّ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فِيهِ يَرْتَفِعُ حُكْمُ الصِّيَامِ لِانْتِهَاءِ غَايَتِهِ لَا نَسْخُهُ. وَأَيْضًا فَشَرْطُ النَّسْخِ تَعَذُّرُ الْجَمْعِ، وَهُنَا الْجَمْعُ مُمْكِنٌ بَيْنَ الْحَبْسِ وَالتَّغْرِيبِ وَالْجَلْدِ أَوْ الرَّجْمِ كَمَا تَقَرَّرَ، فَإِطْلَاقُ الْمُتَقَدِّمِينَ النَّسْخَ هُنَا تَجَوُّزٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَذَى وَالتَّغْرِيبُ بَاقِيَانِ مَعَ الْجَلْدِ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَارَضَانِ بَلْ يُحْمَلَانِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الْحَبْسُ فَمَنْسُوخٌ بِالْإِجْمَاعِ: أَيْ عَلَى مَا فِيهِ كَمَا عُرِفَ مِمَّا تَقَرَّرَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ تَكْرِيرِ اللَّذَانِ إلَخْ. فَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأُولَى فِي النِّسَاءِ وَهَذِهِ فِي الرِّجَالِ، وَخُصَّ الْإِيذَاءُ بِهِمْ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إنَّمَا تَقَعُ فِي الزِّنَا عِنْدَ الْخُرُوجِ غَالِبًا فَبِحَبْسِهَا تَنْقَطِعُ مَادَّةُ ذَلِكَ، وَالرَّجُلُ يَتَعَذَّرُ حَبْسُهُ لِاضْطِرَارِهِ إلَى الْخُرُوجِ لِإِصْلَاحِ مَعَاشِهِ.