لِلْأَوَّلِ، {وَمَقْتًا} [النساء: 22] إشَارَةٌ لِلثَّانِي، {وَسَاءَ سَبِيلا} [النساء: 22] إشَارَةٌ لِلثَّالِثِ، وَمَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْوُجُوهُ فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْقُبْحِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي " إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ " قِيلَ مُنْقَطِعٌ إذْ الْمَاضِي لَا يُجَامِعُ الِاسْتِقْبَالَ: أَيْ لَكِنْ مَا سَلَفَ فَلَا إثْمَ فِيهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ وَبِالِاسْتِثْنَاءِ مَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَتَعَاطَاهُ مِنْ الزِّنَا؛ فَالْمَعْنَى وَلَا تَعْقِدُوا عَلَى مَنْ عَقَدَ عَلَيْهِ آبَاؤُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْ زِنَاهُمْ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْكُمْ مَنْ زَنَوْا بِهِنَّ. وَقِيلَ مُتَّصِلٌ بِحَمْلِ النِّكَاحِ عَلَى الْوَطْءِ: أَيْ لَا تَطَئُوا مَا وَطِئَ آبَاؤُكُمْ وَطْئًا مُبَاحًا بِالتَّرْوِيجِ إلَّا مَنْ كَانَ وَطْؤُهَا فِيمَا مَضَى وَطْءَ زِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ؛ وَالْمَعْنَى وَلَا تَنْكِحُوا مِثْلَ نِكَاحِ آبَائِكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إلَّا مَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْكُمْ مِنْ تِلْكَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ فَمُبَاحٌ لَكُمْ الْإِقَامَةُ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ إذَا كَانَتْ مِمَّا يُقَرُّ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ.
وَحَاصِلُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ، وَأَنَّ الْمَعْنَى وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ إلَّا اللَّاتِي مَضَيْنَ وَفَنِينَ وَكَوْنُ هَذَا مُحَالًا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ الِاتِّصَالِ. وَقِيلَ إلَّا بِمَعْنَى بَعْدَ نَحْوُ {إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان: 56] وَقِيلَ {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ مُقَرَّرٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِنَّ مُدَّةً ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِمُفَارَقَتِهِنَّ لِيَكُونَ إخْرَاجُهُمْ عَنْ الْعَادَةِ الرَّدِيئَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ أَحَدًا عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةِ أَبِيهِ مُطْلَقًا؛ بَلْ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: «مَرَّ بِي خَالِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَمَعَهُ لِوَاءٌ، قُلْت أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ آتِيهِ بِرَأْسِهِ وَآخُذُ مَالَهُ» ، وَفِي الرَّدِّ بِذَلِكَ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِمُفَارَقَتِهِنَّ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ الْمُدَّعَى. وَأَحْسَنُ مَا يُرَدُّ بِهِ عَلَى قَائِلِ ذَلِكَ أَنَّهُ يُطَالَبُ بِإِثْبَاتِ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُمْ مُدَّةً ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِمُفَارَقَتِهِنَّ. وَ " كَانَ فِي " إنَّهُ كَانَ " لَا تَدُلُّ هُنَا عَلَى الْمَاضِي فَقَطْ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى لَمْ يَزَلْ فِي عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ مَوْصُوفًا بِهَذَا الْوَصْفِ، قِيلَ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَلْجَأَ الْمُبَرِّدَ إلَى ادِّعَاءِ زِيَادَتِهَا فَمُرَادُهُ بِزِيَادَتِهَا مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْمَاضِي فَقَطْ وَإِلَّا فَشَرْطُ الزَّائِدَةِ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِ الْخَبَرِ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا.
وَوَجْهُ انْتِظَامِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالْإِحْسَانِ إلَى النِّسَاءِ أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالتَّغْلِيظِ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يَأْتِينَهُ مِنْ الْفَاحِشَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ إحْسَانٌ إلَيْهِنَّ فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَيْضًا فَهُوَ تَعَالَى كَمَا يَسْتَوْفِي لِخَلْقِهِ يَسْتَوْفِي عَلَيْهِنَّ إذْ