وَدَخَلَ جَمَاعَةٌ عَلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدَائِنِ فَوَجَدُوهُ يَعْجِنُ عَجِينَ أَهْلِهِ، فَقَالُوا: أَلَا تَتْرُكُ الْجَارِيَةَ تَعْجِنُ؟ فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّا أَرْسَلْنَاهَا فِي عَمَلٍ فَكَرِهْنَا أَنْ نُجْمِعَ عَلَيْهَا عَمَلًا آخَرَ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تَضْرِبْ الْمَمْلُوكَ فِي كُلِّ ذَنْبٍ وَلَكِنْ احْفَظْ لَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا عَصَى اللَّهَ - تَعَالَى - فَاضْرِبْهُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَذَكِّرْهُ الذُّنُوبَ الَّتِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الْإِسَاءَةِ عَلَى الْجَارِيَةِ أَوْ الْعَبْدِ أَوْ الدَّابَّةِ أَنْ تُجَوِّعَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ» . وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَضْرِبَ الدَّابَّةَ ضَرْبًا وَجِيعًا أَوْ يَحْبِسَهَا أَوْ لَا يَقُومَ بِكِفَايَتِهَا أَوْ يُحَمِّلَهَا فَوْقَ الطَّاقَةِ. فَقَدْ رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ - قَوْله تَعَالَى -: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] قِيلَ أَيْ بَلْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ: «يُؤْتَى بِهِمْ وَالنَّاسُ وُقُوفٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقْضَى بَيْنَهُمْ حَتَّى إنَّهُ يُقْتَصُّ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ حَتَّى يُقَادَ مِنْ الذَّرَّةِ لِلذَّرَّةِ، ثُمَّ يُقَالُ كُونُوا تُرَابًا؛ فَهُنَاكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] » فَهَذَا مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى الْقِصَاصِ بَيْنَ الْبَهَائِمِ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي آدَمَ، حَتَّى الْإِنْسَانِ لَوْ ضَرَبَ دَابَّةً بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ جَوَّعَهَا أَوْ عَطَّشَهَا أَوْ كَلَّفَهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا فَإِنَّهَا تَقْتَصُّ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِنَظِيرِ مَا ظَلَمَهَا أَوْ جَوَّعَهَا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ حَدِيثُ الْهِرَّةِ السَّابِقُ بِطُرُقِهِ.
وَفِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى الْمَرْأَةَ مُعَلَّقَةً فِي النَّارِ وَالْهِرَّةُ تَخْدِشُهَا فِي وَجْهِهَا وَصَدْرِهَا وَتُعَذِّبُهَا كَمَا عَذَّبَتْهَا فِي الدُّنْيَا بِالْحَبْسِ وَالْجُوعِ» . وَهَذَا عَامٌّ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَمَّلَهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا تَقْتَصُّ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ إنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ، فَهَذِهِ بَقَرَةٌ أَنْطَقَهَا اللَّهُ فِي الدُّنْيَا تُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهَا بِأَنَّهَا لَا تُؤْذَى وَلَا تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا خُلِقَتْ لَهُ، فَمَنْ كَلَّفَهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا أَوْ ضَرَبَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِقَدْرِ ضَرْبِهِ وَتَعْذِيبِهِ» .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: رَكِبْت مَرَّةً حِمَارًا فَضَرَبْته مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَرَفَعَ رَأْسُهُ وَنَظَرَ إلَيَّ وَقَالَ: يَا أَبَا سُلَيْمَانَ هُوَ الْقِصَاصُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَإِنْ شِئْت فَأَقْلِلْ وَإِنْ شِئْت فَأَكْثِرْ، قَالَ فَقُلْت لَا أَضْرِبُهُ شَيْئًا بَعْدَهُ أَبَدًا. وَمَرَّ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِصِبْيَانٍ مِنْ