الزهره (صفحة 74)

ولقد أحسن حبيب بن أوس الطائي في قوله:

أخٌ لي لَوُ اعطيتُ المُنى باسمِ فقدهِ ... بلا فقدهِ كانتْ بهِ ثمناً بخسَا

فلو أنَّ نفسِي ألفُ نفسٍ لما انثنتْ ... يدُ البينِ أو تُودِي بآخرها نفسَا

وقد اختلف العشاق في التفصيل والفراق فمن أهل الهوى من يُعظم شأن الهجر على شأن النَّوى وينشد محتجّاً لذلك:

وأنقذَها مِنْ غمرةِ الموتِ أنَّه ... صدودُ فراقٍ لا صدودُ تعمُّدِ

فأجرَى لها الإشفاقُ دمعاً مورَّداً ... من الدَّمِ يجرِي فوقَ خدٍّ مورَّدِ

وأكثر أهل هذا الشأن يُغلبون شأن النَّوى على شأن الهجر بل يغلِّبونه على كل مكروه من الأمر غير الخيانة والغدر.

ولقد أحسن أبو تمام حبيب بن أوس الطائي حيث يقول:

وكانَ عزيزاً أنَّ بيني وبينكمْ ... حجاباً فقدْ أصبحتُ منكمْ علَى شهرِ

وأبكاهُما للعينِ واللهِ إنَّني ... أُحاذرُ أنْ لا نلتقي آخرَ الدَّهرِ

وكمْ دونَنا مِنْ مهمهٍ مُتنازحٍ ... ومن جبلٍ وعرٍ ومن بلدٍ قفرِ

وما زلتُ أرضى مِنْ خليلِي بهجرهِ ... فأحسبُ أنْ لا داءَ أدوَى منَ الهجرِ

إلى أنْ رمانا دهرُنا بتفرُّقٍ ... فأيقنتُ أنَّ البينَ قاصمةُ الظَّهرِ

ونحن نقول الآن الفرقان بين الفراق والهجران الَّذي يعظم عندي أمر الهجر إنَّما هو منسبة ما بينه وبين الغدر لأنَّ الهجر إذا خرج عن أن يكون عقاباً على ذنبٍ أو تذلُّلاً بإظهار تجنٍّ أو عتب أو مراقبة لواشٍ أو مللاً من العذل فلا معذر له غير الغدر والخيانة وترك المقام للهوى بحق الرعاية فهذا أصعب أسباب الهجر ومما ينقص من صعوبته ويكفُّ من عاديته أنَّه إذا جرى هذا المجرى لحق المقصود به ضربٌ من الغيظ لقبح ما صنع به عن غير سبب موجب له وليس شخص المحبوب بناءٍ عن نظره فيتمالك عنه من إزعاج الشوق بفكره ما يذهب بغيظه ويُلين من قلبه ومع الفراق زوال ذلك كله لأن غيبة الشخص عن الناظر مزيلة لكل غيظ وغافرة لكل ذنب وذاهبة بكل عجب يتداخل المحبوب والمحب فالنفوس تذل للفراق وتنقاد معه لدواعي الإشفاق والاشتياق فهذا مقدار ما يتسهّل لنا من وصفهما ويجوز أن نقطع به من الحكم بينهما.

قال ابن ميادة:

سلِ اللهَ صبراً واعترفْ بفراقِ ... عسى بعدَ بينٍ أن يكونَ تلاقي

ألا ليتني قبلَ الفراقِ وبعدهُ ... سقاني بكأسٍ للمنيَّةِ ساقي

وقال آخر:

فوا حسرتا لمْ أقضِ منكمْ لُبانة ... ولم أتمتَّعْ بالجوارِ وبالقُربِ

وفُرِّقَ بيني في المسيرِ وبينكمْ ... فها أنذا قاضٍ علَى إثركمْ نحْبي

وقال آخر:

ألا مَنْ لقلبٍ مُعرضٍ للنَّوائبِ ... رمتْهُ خُطوبُ الدَّهرِ من كلِّ جانبِ

تبيَّنَ يومَ البينِ أنَّ اعتزامه ع ... لى الصَّبرِ من إحدى الظُّنونِ الكواذبِ

وقال آخر:

مَنْ كانَ لمْ يذُقِ الهوَى أوْ ذاقهُ ... فلقدْ أخذتُ منَ الهوَى بنصيبِ

فرأيتُ أنَّ أشدَّ كلِّ بليَّةٍ ... قُضيتْ علَى أحدٍ فراقُ حبيبِ

وقال أبو تمام:

لو كانَ في البينِ إذْ بانوا لهمْ دعَةٌ ... لكانَ بينهمُ منْ أعظمِ الخطرِ

فكيفَ والبينُ موصولٌ بهِ تعبٌ ... يكلِّفُ البيدَ في الإدلاجِ والبُكرِ

لو أنَّ ما تبتليني الحادثاتُ بهِ ... يكونُ بالماءِ لم يُشربْ من الكدرِ

لو كانَ بالعيسِ ما بي يومَ رحلتهمْ ... أعيَتْ علَى السَّائقِ الحادي فلم تسرِ

كأنَّ أيدي مطاياهُمْ إذا وخدَتْ ... يقعْنَ في حُرِّ وجهي أوْ علَى بصري

وقال ابن الدمينة:

إلى اللهِ أشكو مُضمراتٍ من الهوَى ... طواهُنَّ طولُ النَّأيِ طيَّ الصَّحائفِ

أقامَ بنحْوِ الماءِ قلبي وباعدَتْ ... بسائرِ جِثماني قلاصُ الغلائفِ

وقال معاذ ليلَى العقبلي:

أقامَ فريقٌ من أُناسٍ تودُّهمْ ... بذاتِ الشَّرى عندي وبانَ فريقُ

بحاجةِ محزونٍ ثباتُ فؤادهِ ... رهينٌ ببيضاتِ الحجالِ صديقُ

تحمَّلْنَ أنْ هبَّتْ لهنَّ عشيَّةً ... جَنوبٌ وأنْ لاحتْ لهنَّ بروقُ

فواكبدي أُكْوى عليها وإنَّها ... مخافةَ هيضاتِ النَّوى لخَفوقُ

وقال المعلوط:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015