الزهره (صفحة 171)

قال: فدخلت بالأبيات على أبيها فقال: ما أُريد بذلك صداقٌ غيرها فزوَّجه إيَّاها.

وفي الباب الستين ما جاء في ذم المزاح وكثرة الكلام، أخبرني أحمد بن عبيد ورجل من العرب قال: خرجت في بعض ليالي الظلم فإذا أنا بجارية كأنها صنم، فراودتها عن نفسها، فقالت: يا هذا ما لك زاجر من عقل إذا لم يكن لك ناهٍ من دين. فقلت: والله ما ترانا إلاَّ الكواكب. قالت: وأين مكوكبها؟ فأخجلني كلامها فقلت: إنَّما كنت أمزح. فأنشأت تقول:

فإيَّاك إيَّاك المزاحَ فإنَّهُ ... يُجري عليك الطفلَ والرَّجل النَّذْلا

ويُذهبُ ماء الوجه بعد بهائه ... ويورثُ بعد العزّ صاحبه الذُّلاَّ

وقال بعض الحكماء: لكل شيء بدء، وبدء العداوة المزاح. وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى عماله: امنعوا النَّاس من المزاح فإنَّه يذهب المروءة ويوغر الصدر. وقال بعض الشعراء:

مازحْ أخاكَ إذا أرادَ مُزاحا ... وتوقَّ منه في المزاحِ جماحا

فلربَّما مزَحَ الصَّديق بمزحةٍ ... كانتْ لبابِ عداوةٍ مفتاحا

وقال بعض الشعراء:

إمحض مودَّتك الكريم فإنَّما ... مرعى ذوي الأحساب كلُّ كريمِ

فأخا الشّراف من الرِّجال مروءة ... والموت خيرٌ من إخاء لئيمِ

وقال يحيى بن أكثم القاضي:

وقارنْ إذا قارنتَ حرّاً فإنَّما ... يَزين ويُزري بالفتَى قُرناؤهُ

إذا المرء لم يختر صديقاً لنفسهِ ... فناد في السّوق هذا جزاؤهُ

وأنشدني منشد:

طلبت امرءاً محضاً صحيحاً مُسلّماً ... نقيّاً من الآفات في كلِّ موسمِ

لأمنحهُ ودِّي فلم أُدرك الَّذي ... طلبتُ ومن لي بالصَّحيح المسلَّمِ

فلمَّا بدا لي أنَّني لستُ مدركاً ... من النَّاس إلاَّ بالمريض المسقَّمِ

صبرتُ ومن يصبرْ يجدْ غِبَّ صبرهِ ... ألذ وأحلا من جَنَا النَّحل في الفمِ

ومن لا يطبْ نفساً ويستبقِ صاحباً ... ويغفرْ لأهل الودّ يصرَمْ ويُصرمِ

وأنشدني الحسن بن عليل الغنوي:

القَ بالبشر من لقيتَ من النَّ ... اس جميعاً ولاقِهم بالطَّلاقة

تجنِ منهم بهِ ثمارَ عجيب ... طيّبٍ طعمُهُ لذيذِ المذاقة

ودع التّيه والعُبوسَ عن النَّ ... اس فإنَّ العبوس رأس الحماقة

وكان يقال: لا تهذر في منطقك ولا تخبر بذات نفسك ولا تغترَّ بعدوك ولا تفرط في حبِّ صديقك، واعلم أن شرَّ الأخلاق ملالة الصاحب وتقريب المتباعد. وأنشدني أحمد بن يحيى الكندي:

وكُن معدناً للحلمِ واصفحْ عن الأذَى ... فإنَّك راءٍ ما عملت وسامعُ

وبلغني أن أبا نواس قال هذه الأبيات على البديهة في الوقت الَّذي كان فيه محمد الأمين أمير المؤمنين، وذلك أنَّه ركب الحرّاقات إلى الشماسية فاصطفت له الخيل والرِّجال على شاطئ دجلة وحملت معه المطابخ والخزائن، وكان ركوبه حراقة تمثال أسد فما رأَى النَّاس منظراً كان أحسن من ذلك المنظر والسير، وركب أبو نواس معه وكان يومئذ ينادمه فقال:

سخَّر اللهُ للأمين مَطايا ... لم تُسخَّر لصاحبِ المحرابِ

وإذا ما ركابُهُ سرنَ برّاً ... سارَ في الماءِ راكباً ليثَ غابِ

أسدٌ باسط ذراعيه يعدو ... وافر الشدق كالح الأنيابِ

عجبَ النَّاسُ إذْ رأوك علَى ص ... ورة ليثٍ تمرُّ مرَّ السَّحابِ

سبَحوا إذْ رأوك سرتَ عليه ... كيف لو أبصروك فوق العُقابِ

باركَ اللهُ للأمين وأبقا ... هُ وأبقى له رداءَ الشَّبابِ

ملِكٌ تقصُرُ المدائح عنهُ ... هاشميّ موفقٌ للصَّوابِ

قال: وبلغني أن أبا نواس حضر يوماً مجلس محمد فورد على محمد كتاب العمَّال يُخبر أن رجلاً من الشُّراة، ويصف شدَّة شوكته وقوَّة أمره فقال لبشر خادمه وكان يحبّه: ينبغي أن توجّه أبا نواس إلى هناك يريد الشاري. وأظهر لأبي نواس جدّاً وكان مزَّاحاً، وأمر أن تُراح علَّته فيما يحتاج إليه من المال والسلاح وقال لبشر: انظر ما يرد عليك من أبي نواس في هذا الباب فاعرضه عليَّ. فلمَّا انصرف أبو نواس كتب إلى بشر الخادم بهذه الأبيات:

يا بشرُ ما لي وللسَّلاح ولل ... حربِ ونجمي في اللَّهو والطَّربِ

لا تنفرني فإنَّني رجلٌ ... أكعُّ عند اللّقاء والطَّلبِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015