فيه التجار من الأقاليم، وطرنش على نهر هو أعظم أنهار افرنجة، وعليه حصن من خشب عظيم جداً، وأبوابه من خشب. وإنما عظموا مدينة طرنش للكنيسة التي بها، وهي كنيسة عظيمة في وسطها صنم من فضة على صورة شنت مرتين، وبها عظامه، وبهذه الكنيسة من صدقات قارلُهْ تاجه الذي كان يلبسه مرصعاً برفيع الجواهر، وعصاه مفرغة ذهباً وقميصه منسوج بالذهب منظوم باللؤلؤ وفيها مصاحف إنجيلهم ألواحاً من ذهب مكللة بالياقوت والزمرد، وقارلُه هذا أول ملوكهم. وفي الافرنج جمال، وأكثرهم بيض شقر وقد يوجد فيهم سمر وسود الشعور، ولهم عقول صحيحة، وفيهم كيد ودهاء وكبر وبأس شديد وقسوة، لا رأفة عندهم، يموت حميم الرجل فلا يبكيه، وهم أسخياء بطعامهم، ويأكلون في اليوم مرات، ويغتسلون ويتطيبون ويغسلون شعورهم بالصابون، ولهم حمامات يصنعونها لاستخراج فضول الأبدان بحجارة محماة يضعون عليها الكراسي ويصبون فوق تلك الحجارة الماء، فيرتفع لذلك بخار يسيل عرق الأبدان، وإذا اشتد الحر بافرنجة استحجرت الأرض وكثر الزلق، فلا يركب الفارس إلا على خطر لا سيما إذا نزل المطر على النهر، وإذا نزل الثلج على ذلك الجمد تسهلت الأرض وأمكن الركوب.

طرطوشة (?) :

من بلنسية إلى طرطوشة مائة ميل وعشرة أميال، مسيرة أربعة أيام، وهي في سفح جبل، ولها سور حصين، وبها أسواق وعمارات وضياع وفعلة، وإنشاء المراكب الكبار من خشب جبالها وبجبالها خشب الصنوبر الذي لا يوجد له نظير في الطول والغلظ، ومنه تتخذ الصواري والقرى، وهو خشب أحمر صافي البشرة بعيد التغير لا يفعل فيه السوس ما يفعله في غيره من الخشب، ومنها إلى طركونة خمسون ميلاً، وبينها وبين البحر الشامي عشرون ميلاً.

وقصبة طرطرشة على صخرة عظيمة سهلة الأعلى وفي الشرق من القصبة جبل الكمين (?) ، وهو جبل أجرد، والمصلى والمدينة في غربي القصبة وجوفيها، وعلى المدينة سور صخر من بناء بني أمية على رسم أولي قديم، ولها أربعة أبواب، وأبوابها كلها ملبسة بالحديد، ولها أرباض من جهة الجوف والقبلة، ودار الصناعة، قد أحدق على ذلك كله سور صخر حصين بناه عبد الرحمن بن النظام، وبها جامع من خمس بلاطات، وله رحبة واسعة، بني سنة خمس وأربعين وثلثمائة، وبها أربعة حمامات، وسوقها قي الربض القبلي جامعة لكل صناعة ومتجر، وهي باب من أبواب البحر ومرفأ من مرافئه يحلها التجار من كل ناحية، وهي كثيرة شجر البقس، ومنها تفترق إلى النواحي، وخشبها الصنوبر له خاصية في الجودة تفوق جميع خشب الأمصار. وقصبة طرطوشة من المنعة والسمو في حد لم يستوفه بالصفة إلا عبد الملك بن ادريس الكاتب المعروف بالجزيري (?) حين سجنه بها المنصور بن أبي عامر فقال يصف حاله هناك من قصيدة طويلة مشهورة:

في رأس أجردَ شاهقٍ عالي الذرى ... ما بعده لمؤملٍ من مبصر

يهوي إليه كل أجرد ناعب ... وتهب فيه كل ريح صرصر

ويكاد من يرقى إليه مرة ... من دهره يشكو انقطاع الأبهر وأول هذا الشعر:

ألوى بعزم تجلدي وتصبري ... نأي الأحبة واعتياد تذكري

شحط المزار ولا مزارَ ونافرت ... عيني الهجوعَ فلا خيال يعتري

وقصرت عنهم فاقتصرت على جوى ... لم يدع بالواني ولا بالمقصر ومن أهل طرطوشة الفقيه الإمام الزاهد أبو الوليد الطرطوشي الفهري (?) نزيل الاسكندرية، صاحب التعليقة في الخلاف وكتاب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015