الناس فاختلفوا فمن قائل يقول: نرجع إلى مرو، وقائل يقول: نرجع إلى أبرشهر وقائل يقول: نقيم ونستمد وقائل يقول: نلقاهم فنناجزهم فلما أمسى الأحنف خرج يمشي في العسكر يسمع حديث الناس فمر بأهل خباء ورجل يوقد تحت خزيرة أو يعجن، وهم يخوضون ويذكرون العدو فقال بعضهم: الرأي للأمير، إذا أصبح، أن يسير حتى نلقى القوم حيث لقيناهم فإنه أرعب لهم فنناجزهم، فقال صاحب الخزيرة أو العجين: إن فعل ذلك فقد أخطأ وأخطأتم أتأمرونه أن يلقى العدو مصحراً في بلاده، فيلقى جمعاً كثيراً بعدد قليل فإن جالوا جولة اصطلمونا؟! ولكن الرأي له أن ينزل بين المرغاب والجبل فيجعل المرغاب عن يمينه والجبل عن يساره فلا يلقى من عدوه وإن كثروا، إلا عداد أصحابه، فرجع الأحنف وقد اعتقد ما قال، فضرب عسكره وأقام فأرسل إليه أهل مرو يعرضون عليه أن يقاتلوا معه، فقال: إني أكره أن نستنصر بالمشركين فأقيموا على ما أعطيناكم، فإن ظفرنا فنحن على ما جعلنا لكم وإن ظفروا بنا وقاتلوكم فقاتلوا عن أنفسكم، قال: فوافق المسلمين صلاة العصر، فعاجلهم المشركون فناهضوهم وقاتلوا وصبروا الفريقان حتى أمسوا والأحنف يتمثل:
أحق من لم يكره المنيه ... حزور ليست له ذريه ... وقيل: قاتلهم حتى ذهب عامة الليل، فهزمهم الله تعالى فقتلهم المسلمون حتى انتهوا إلى دسكرة (?) وهي على اثني عشر فرسخاً من قصر الأحنف.
وفي سنة سبع عشرة وستمائة نزل خاقان الططر على الطالقان، وهي من معاقل خراسان، فترك عليها عسكراً وسار إلى هراة، فجرى فيها على عادتهم الذميمة من القتل والتخريب ثم عاد إلى الطالقان وهي محصورة، فلما كان بعد عشرة أشهر من يوم حصارها، وقد يئس أهلها من النصرة، ولم يجدوا إلى الصبر رغبوا في الشهادة وخرجوا يداً واحدة على عساكر الططر، فمنهم من تعلق بالجبال فسلم ومنهم من مات على سيفه، وبعدها شرع خاقان في أخذ قواعد خراسان فأناخ على بلخ، حسبما ذكر في حرف الباء.
مدينة بالأندلس بقرب اشبيلية وهي من المدن القديمة وكانت دار مملكة الأفارقة بالأندلس، وكانت من مدن اشبيلية المتصلة بها في سالف الدهر وهي خراب، إذ كان اشبان بن طيطش غزا طالقة وحصر ملكهم بها حتى فتحها وتغلب على مملكتهم فهدم طالقة ونقل رخامها وآلاتها إلى اشبيلية، وبه سميت، واتخذها دار ملكه وكثرت جموعه فعلا في الأرض وغزا من اشبيلية ايليا بعد سنتين من ملكه، خرج إليها في السفن ففتحها وهدمها وقتل من اليهود مائة ألف، واسترق مائة ألف، وفرق في البلاد مائة ألف وانتقل رخام ايليا وآلاتها إلى الأندلس والغرائب التي أصيبت في مغانم الأندلس كمائدة سليمان التي ألفاها طارق بن زياد بكنيسة طليطلة وقليلة الدر التي ألفاها موسى بن نصير بكنيسة ماردة وغيرها من الذخائر، إنما كانت مما صار لصاحب الأندلس من غنيمة بيت المقدس إذ حضر فتحها مع بخت نصر.
وحكوا أن الخضر وقف باشبان هذا وهو يحرث الأرض في حداثته، فقال له: يا اشبان إنك لذو شان وسوف يحظيك زمان ويعليك سلطان، فإذا أنت غلبت على ايليا فارفق بذرية الأنبياء، فقال له اشبان: أساخر أنت، رحمك الله!! أنى يكون هذا وأنا ضعيف مهين؟! فقال: قدر ذلك من قدر في عصاك اليابسة ما تراه، فنظر اشبان إلى عصاه فرآها قد أورقت، فريع لما رأى، وذهب الخضر عنه وقد وقر ذلك الكلام في نفسه والثقة بكونه، فترك الامتهان، وداخل الناس وصحب أجل الناس وسما به جده فارتقى في طلب السلطان حتى نال منه عظيماً وكان ملكه عشرين سنة، واتصلت مملكة الاشبانيين إلى أن ملك منهم الأندلس خمسة وخمسون ملكاً.
وكانت بطالقة آثار عجيبة وعجائب غريبة، فمن ذلك صورة جارية من مرمر لم يسمع في الأخبار، ولا رئي في الآثار صورة أبدع منها في قالب جارية كاملة القد حسنة الجسم جميلة الوجه، قد صور كل عضو من أعضائها وكل جارحة من جوارحها على أتم ما يكون وأفضل ما يستحسن في جوارح المرأة، وفي حضنها صورة صبي على مثل ذلك من الحكمة والإتقان وقد صورت حية تصعد من قدمها كأنها تريد نهش الصبي، قسمت