بعضها على بعض، ثم قام عليها بغياً وعدواناً، ثم قال: هل بقي لنا من مبارز. فخرج إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فناداه: ويحك يا كريب، إني أحذرك الله وأدعوك إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويلك لا يدخلك النار، فقال له كريب: ما أكثر ما سمعت منك هذه المقالة، لا حاجة لنا فيها، أقدم إن شئت، من يأخذ سيفي هذا وهذا أثره، فقال علي رضي الله عنه: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم مشى إليه علي رضي الله عنه فالتقيا هنيهة، ثم إن علياً رضي الله عنه ضربه فقتله، ثم نادى علي رضي الله عنه: من يبارز؟ فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري، فقتله علي رضي الله عنه، ثم نادى: من يبارز؟ فبرز إليه المطاع بن المطلب القيني فقتله، ثم نادى: يا معشر المسلمين: " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله مع المتقين "، ثم نادى علي رضي الله عنه: ويحك يا معاوية، هلم فبارزني ولا تفنين العرب بيننا فقال عمرو رضي الله عنه: اغتنمه، فقد قتل أربعة من فرسان العرب، وأنا أطمع أن يظفرك الله به، فقال معاوية رضي الله عنه: والله إن تريد إلا قتلي فتصيب الخلافة، اذهب إليك، فليس مثلي يخدع، ما بارز ابن أبي طالب رجلاً إلا سقى الأرض من دمه.
وافترقوا (?) قبل التحكيم عن سبعين ألف قتيل على أصح الروايات بعد أن تراموا بالنبل حتى فنيت، وتطاعنوا بالرماح حتى اندقت، وتضاربوا بالسيوف حتى انقطعت، ثم نزل القوم يمشي بعضهم إلى بعض قد كسروا جفون سيوفهم واضطربوا. بما بقي من السيوف وعمد الحديد فلا تسمع إلا غمغمة القوم، فلما صارت السيوف كالمناجل تراموا بالحجارة، ثم جثوا على الركب فتحاثوا التراب في الوجوه ثم تكادموا بالأفواه، وكسفت الشمس وثار القتام وارتفع الغبار وضلت الألوية والرايات، ومرت مواقيت أربع صلوات لأن القتال كان بعد صلاتهم الصبح، فاقتتلوا إلى نصف الليل، وهي ليلة الهرير جعل بعضهم يهر على بعض، وهو الصوت يشبه النباح، وكبروا في أوقات الصلوات خاصة، وقاتلهم علي رضي الله عنه ولم يذفف على جريح ولا تبع منهزماً ولا أخذ أسيراً ولا سبى امرأة ولا كشف عورة ولا أخذ مالاً، إلا ما أجلبوا به عليه من سلاح أو كراع فإنه يرده إلى أهلهم.
قالوا: ولا خلاف بين أهل الحل والعقد أن علياً رضي الله عنه كان أحق بالخلافة والإمامة في ذلك الوقت من كل من على وجه الأرض عموماً، وأفضل من معاوية خصوصاً، لأنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاً وأخوه نسباً وقسيمه حسباً، ومن الأولين السابقين والمهاجرين المذكورين في الكتاب، ومن العشرة المقطوع لهم بالجنة، وشهد بدراً، وقد غفر الله لكل من شهد بدراً من المسلمين، وقتل فيها يومئذ ثلث المقاتلين، وتحرك به جبل حراء وهو مع ابن عمه صلى الله عليه وسلم، وصلى القبلتين، وفداه صلى الله عليه وسلم ليلة الغار بنفسه، وشهد بيعة الرضوان، وبايع تحت الشجرة، وكتب كتاب المقاضاة بيده، وأعطاه صلى الله عليه وسلم لواءه في غير موقف، وزوجه البتول سيدة نساء أهل الجنة، وهو أبو سيدي شباب أهل الجنة، وخامس أصحاب العباءة، ويحب الله ويحبه الله، باتفاق من الصحيحين، وأنزله منه (?) صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى، وعهد إليه أنه لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق.
مدينة بإفريقية، بينها وبين قفصة ثلاثة أيام، وهي مدينة قديمة عامرة، لها أسواق كثيرة وعمارة شاملة وعليها سور حجارة وعلى أبوابها صفائح حديد منيعة، وعلى أسوارها محارس للرباط، وشرب أهلها من المواجل، ويجلب إليها من قابس نفيس الفواكه، ويصاد بها من السمك ما يعظم خطره - وأكثر صيدهم في الماء الميت بضروب حيل، وجل غلاته الزيتون، والزيت بها منه شيء كثير، ومرساها حسن ميت الماء، ولأهلها نخوة وفي أنفسهم عزة، وملكها طاغية صقلية سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ثم استنقذت منه وعمرت، ومنها إلى المهدية مرحلتان.
ومن الناس من يكتب صفاقس بالسين، ومن قابس (?) إلى عين الزيتونة إلى منزل في طرف ساحل الزيتون (?) ، ومن هناك إلى غافق، وهو بلد معمور، ومن هناك إلى صفاقس، وبها أسواق