ما بقي لكم طمع فيها فهلموا إلى بلاد المغرب ففيه ما يجبركم، فوصل في هذه السنة بحشوده إثر الوقيعة التي كانت عليه بوادي الدبوسي من سفح جبل نفوسة مع الشيخ المجاهد أبي محمد عبد الواحد قاصداً إلى صاحب تلمسان موسى بن يوسف بن عبد المؤمن، وخرج إليه موسى بجموعه ومن صحبه من فرسان زناتة فالتقوا بتاهرت في شوال سنة خمس المذكورة، فانهزم أصحاب موسى وأخذهم السيف وأثخن فيهم وقتل موسى وأسر أحد أولاده، وأحاط يحيى بن إسحاق بعسكره ولم تبق له باقية، وكان هذا اليوم من غرر أيام يحيى شفى فيه غيظه وأخذ بثأره وانصرف ظافراً غانماً، وبقي ولد موسى أسيراً في يد الأعراب حتى فداه صاحب إفريقية، وفقد من محلة موسى نحو من ألف وسبعمائة إنسان، وانبسطت جموع يحيى في تلك الجهات وعاثوا فيها وارتاع أهل تلمسان وأغلقوا بابهم وأذهلتهم فجأة هذا الأمر، ودام عيث أصحاب يحيى في أقطارها وجهاتها حتى امتلأت أيديهم بالأسباب والأمتعة والأموال، فكانت هذه الوقيعة شبيهة بوقيعة عمرة الكائنة في مدة المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن. ولما بلغ الملك الناصر بمراكش خبر هذه الوقيعة ومقتل موسى وجه أبا زيد بن يوجان (?) وزير أبيه في عسكر في طلب هذا العدو وقد انكمش لائذاً بصحراء طرابلس.
وكان (?) صاحب تلمسان يغمراسن بن زيان من بني عبد الوادي قد تمادى في غيه ونبذ طاعة ملك إفريقية الأمير أبي زكريا وأعلن بالخلاف فتحرك إليه من تونس في عساكره وحشوده، فخرج من تونس في السادس والعشرين من شوال سنة تسع وثلاثين وستمائة، وجعل يتلوم عليه ويأمر من يندبه إلى مراجعة الطاعة إلى أن انتهى إلى تلمسان فنزل عليها، فكان بنو عبد الوادي يخرجون كل يوم فيطاردون العسكر ثم يرجعون إلى مدينتهم، وصابروهم إلى أن ضاق مجالهم وانحجزوا في مدينتهم ورجعوا إلى النشاب وأغلقوا الأبواب فأحرق بعضها ودخلت عليهم البلدة عنوة وخرج يغمراسن من أحد أبوابها فاراً لا يلوي على شيء، وملك الأمير أبو زكريا البلد وأنهبها ثم أمنها بعد ذلك، وعفا عن الناس، ثم عفا عن يغمراسن وأمنه وأذن له في الرجوع إلى بلده، وكان فتحها في العاشر من صفر سنة أربعين وستمائة، وخافه صاحب مراكش يومئذ عبد الواحد بن أبي العلا ادريس بن المنصور يعقوب الملقب بالرشيد، وكان بمراكش يوم تحقق دخوله في طريق إفريقية أفراح عظيمة، وقالت الشعراء في ذلك وأكثرت، من ذلك قول الأديب الكاتب أبي عبد الله محمد بن الأبار من قصيدة:
دنت غمرات الموت من يغمراسن ... فأجفل كالخرقاء يعتسف الخرقا
فأين الذي كان ادعى من زعامة ... لمعشره يا شد ما اجتنب الصدقا
وفروا وكان المكر فيهم سجية ... ومن ذا يطيق الطعن والضرب والرشقا
سلا عن سلا هل طلها العارض الذي ... أطل على مراكش يحمل الصعقا
وهل سكنت فاس وسبتة بعده ... أم اصطكتا كالخافقين له خفقا
وهل أخذت روم الجزيرة حذرها ... من الفتكة النكراء تمحقهم محقا
لفتح تلمسان على الشرك عنوة ... أشق بحكم القسر منه على الأشقى
رمت للإمام المرتضى بقيادها ... فأحرزها علقاً وأوسعها عتقا
وأسرف أهلوها معاصي أوبقت ... فما زاد أن أغضى حناناً وأن أبقى
بين القيروان والمهدية من القيروان إليها مرحلة، وتماجر كبيرة آهلة بها جامع وأسواق وفنادق وحمام وماؤها زعاق، وفي وسطها غدير ماء وحولها غابة زيتون وأعناب، وبين تماجر والمهدية الوادي المالح الذي كانت فيه الوقيعة المشهورة بين أبي يزيد وأبي القاسم (?) قتل فيها من أصحاب أبي القاسم عدد لا يحصى، وهي مدينة كبيرة قديمة.