) يَترشَفْنَ من فميَ رشَفاتٍ ... هنُّ فيهِ أحلى منَ التوْحيدِ (
ثم أسر إلي وقال: أخبرني والله مخبر أن عمور لثاته فاسدة وأن نكهته مريحة فأضحكني. ولم يذكر أبو الطيب من هذا جواباً، فأحببتُ تسكين جأشه فقلت: ما أحسن ما قال المجنون:
وإني إذا صلّيتُ وَجهتُ نحوْها ... بوجهي وإن المصُلى ورائياَ
ثم تدارك هذا فقال:
وما بي إشراكُ ولكنّ حُبهاً ... كعَظمِ الشَجا أعيا الطبيب المداويا
أصليّ فماَ أدري إذا ما ذكَرْتهُ ... أثنْتين صليّتُ الضحىّ أم ثمانيِاَ
فقال أبو الطيب: في هذا المعنى لطيف. فقلت: إنه كان لا يحصل ما يصلي شغلاً بحبها، فكان يعد الركعات فإذا عدّ اثنتين انبسطت إصبعاه فتخليهما ثمانية فاستظرف المهلبي هذا الجواب واستحسنه الحاضرون وتبسم أبو الطيب إلي واستدعى أبو علي الأنباري مدرجاً من صاحب دواته فقال: تكلموا على هذه المعاني، وتأملوا إحسان هذا الرجل فيها وسبقه إليها. وأقبل علي والمدرج في يده فقال: أنت المشار إليه في الحفظ، فاذكر ما عندك، ولنذكر الجماعة ما سنح لها، أو فلنسلم غاية السبق إلى أبي الطيب فقلت: أقول على شريطة ألا يعترض كلامي غيري، فإن ازدحام الكلام مضلة للفهم. أو فليقل غيري على شريطة تسليمي إليه عنفوان القول وأعقابه. فاستروحت الجماعة إلي، وابتدأ أبو علي الأنباري فقال ما ندك في قوله:
) وَخَصرُ تَثُبتُ الأبصارُ فيهِ ... كأنّ عليهَ من حَدقٍ نطاقاَ (
وأقبلت الجماعة تستحسن. فاقبل علي فقال: قل. فقلت: حسن. فقال: أما هو بكر؟ قلت: لا! كيف يكون بكراً وبشار بن يقول:
ومكَللاتٍ بالعيون ... طرقتنا وخرجن همسا
فأصبن من طرف الحديث ... لذاذة ورجعن ملسا
حور يرقن إذا حلي ... ن عطلن خشين نفساً
فقوله: " مكلللات بالعيون " هو البيت، وذلك المعنى. يول: إذا برزن صرف الناظرون أعينهم إليهم لحسنهن، فكأنهن كللن بالعيون. " ورجعن ملساً "، أي لم يأتين ريبة. وقوله: " إذا حلين "، أي لبسن الحلي، لا يلبسنه لحسنهن، وإنما يلبسنه عوذاً، لأنهن مستغنيات عن الزينة بجمالهن. وكذلك قوله:
وإذا عَطِلُنَ خَشَيِنَ نفَساً
يقول: خشين العين، فهن يدفعن العين بالحلي؛ فسرق هذا المعنىُ ابن الرومي:
وتَلبسُ الحلي مجعولاً لها عوذاً ... لا زِينَةً بل بها عن ذاكَ غُنيانُ
وقد قال أبو جعفر. . . المصري في المعنى الأول يذكر عيوناً ألحت بالنظر إلى شخص: مُسمُرات علَيهِ لَيسَ تنقَلعُ فقالُ ابن الأنباري فما تقول في قوله:
) أقامَتُ في الرقاُب لَهُ أيادٍ ... هي الأطواق والناُسُ الحَمامُ (
أما هذا مخترع؟ فقلت: كلا، بل هو من قولُ ابن الرومي:
إذا امتدُحوا لم يُنحلوا فضلَ غيرِهم ... وهل تنُحل الأطواق وُرْقُ الحمائم
وابن الرومي احتذى فيه قول محمد بن حازم الباهلي:
أبى لي أن أطيل الشعر قَدي ... إلى المعَنى وعلمِي بالصوابِ
فأبُعَثُهنُ أربُعةً وستاً ... بألفاظ مُشَقفَةٍ عذِابِ
وهُنُ إذا وسَمتُ بهنُ قَوماً ... كأطواقِ الحمائمِ في الرقابِ
وهنُ وإن أقَمتُ مُسافِراتُ ... تهَاداها الرواةُ معَ الركابِ
وابن حازم احتذى فيه قول الفرزدق:
فمَن يكُ خائِفاً لأذاةِ شعِري ... فقد أمِنَ الهِجاءَ بنو حرَامِ
همُ قادوا سفَيههَمُ وخافُوا ... قَلائِد مثل أطواقِ الحَمامِ
والأصل في هذا قول حسان بن ثابت، ولاحاه رجل فقال: اغرب وإلاّ طوقتك طوق الحمامة: فقال أبو محمد فما تقول في قوله:
) كَفى بجسمي نُحُولاً أنّني رجلٌ ... لولاْ مُخاطبتيّ إياكَ لم تَرني (
أمخترع هو؟ فقلت: كلا، هذا من بيتين أنشدناهما محمد يحيى:
لماّ بلَيتُ منَ الهوَى ... خفت العيون من أن تراني
لولا كلامي ما اهتدتْ عينُ الجليسِ إلى مكاني وهذا المعنى ينظر إلى أبي نؤاس:
شعرُ حيٍّ أتاكَ من لفظِ ميْتٍ ... صَار بينَ الحياةِ والموتِْ وقفاَ
قد بَرتهُ حوادثُ الدّهر حتى ... كادَ عن أعيُنِ الحوادث يخفَى
لوْ تأملْتني لتثبتَ وجْهي لم ... تبنْ من كتابِ وجهيَ حَرْفاَ
ولرَدّدْتَ طرْفَ عينك َفي جسْمٍ ... بَراهُ الصّدود حتى تعَفىّ