الرسائل للجاحظ (صفحة 507)

وأُخرى: ليس من قال الشعر بقريحته وطبعه واستغنى بنفسه، كمن احتاج إلى غيره يطردُ شعره، ويحتذي مثاله، ولا يبلُغ معشاره.

قال (صاحب الغلمان) : ظلمت في المناظرة ولم تُنصف في الحجَّة؛ لأن لم ندفع فضل الأوائل من الشعراء، إنّما قلنا إنهم كانوا أعراباً أجلافاً جُفاةً، لا يعرفون رقيق العيش ولا لذَّات الدنيا؛ لأنَّ أحدهم إذا اجتهد عند نفسه شبَّه المرأة بالبقرة، والظبية، والحيّة. فإنْ وصفها بالاعتدال في الخلقة شبّهها بالقضيب، وشبَّه ساقها بالبَرْدية؛ لأنّهم مع الوحوش والأحناش نشؤوا، فلا يعرفون غيرها.

وقد نعلم أنّ الجارية الفائقة الحُسن أحسنُ من البقرة، وأحسنُ من الظَّبية، وأحسن من كلِّ شيءٍ شُبِّهَتْ به.

وكذلك قولهم: كأنَّها القمر؛ وكأنّها الشمس؛ فالشَّمس وإن كانت حسنةً فإنما هي شيء واحد، وفي وجه الإنسان الجميل وفي خلقه ضروبٌ من الحُسن الغريب، والتركيب العجيب. ومن يشكُّ أنّ عين الإنسان أحسن من عين الظَّبي والبقرة، وأن الأمر بينهما متفاوت!.

وهذه أشياءُ يشترك فيها الغلمان والجواري، والحجَّة عليك مثلُ الحجّة لك في هذه الصفات.

وأمّا احتجاجُك علينا بالقرآن والآثار والفقهاء، فقد قرأنا مثل ما قرأت، وسمعْنا من الآثار مثل ما سمعت. فإن كنت إلى سرور الدُّنيا تذهب، ولذّاتها تريد، فالقول قولنا. كما قال الشاعر:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015