الرسائل للجاحظ (صفحة 271)

لا والله إنْ تعرف على ظهرها موضعاً للسرّ، ولا مكاناً للشكوى، ولا روحاً تأنس بها، ولا نفساً تسكن إليها. ولو أردت أن تعرّفني من جميع العالمين رجلاً لما قدرت على أحدٍ يحتمل الغنى. ومحتمل الفقر قليل، ومحتمل الغنى عديم.

إن الخير - أبقاك الله - في ايام كثرته كان قليلاً فما ظنُّك به في ايام قلَّته، وإن الشرَّ في أيام قلّته كان كثيراً فما ظنك به في أيام كثرته، وأنت غريبٌ في المصطنعين. وأنا غريبٌ في الصنائع، والغريب للغريب نسيب، ونسب المشاكلة وقرابة الطبيعة الموافقة، أقرب من نسب الرحم؛ لأن الأرحام مولعةٌ بالتحاسد، لهجة بالتقاطع، وأن التحابَّ على طبع المشاكلة. والتلاقي على وفاقٍ من الطبيعة، أبعد من التفاسد، وأبعد من التعادي. وسبب التعادي عرض في طبائع الغرباء، وجوهرٌ في طبائع الأقرباء.

واعلم أنك لا تزال في وحشة إلى وحشة، وفي غربة إلى غربة، وفي تنكُّر العيش وتسخُّط الحال، حتى تجد من تشكو إليه بثَّك، وتُفضي إليه بذات نفسك. ومتى رأيت عجباً لم تضحك رؤيتك له بقدر ما يضحك إخبارك إياه. فمن أغلب عليك ممن كانت هذه حاله منك، وموقعه من نفسك.

ولو أن شيبتي التي بها استعطفتك، وكبرة سنيّ التي بها استرحمتك، اللتان لم يحدثا عليَّ وأنا في ذراك، ولم يُحلاَّ بي إلا وأنا في ظلِّك، لكان في شفاعة الكبرة، واسترحام الضَّعف والوهْنة، ما يردعك عني أشدَّ الردع،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015