الرسائل للجاحظ (صفحة 141)

منه، فيستريح إلى نبذه، ويلذ إلقاءه على اللسان. ثم لا يكاد أن يشفيه أن يخاطب به نفسه في خلواته حتى يفضي به إلى غيره ممن لا يرعاه ولا يحوطه. كل ذلك ما دام الهوى مستولياً على اللسان، واستعمل فضول النظر فدعت إلى فضول القول.

فإذا قهر الرأي الهوى فاستولى على اللسان، منعه من تلك العادة، ورده عن تلك الدربة، وجشمه مؤونة الصبر على ستر الحلم والحكمة.

ولا شيء أعجب من أن المنطق أحد مواهب الله العظام، ونعمه الجسام، وأن صاحبها مسؤولٌ عنها، ومحاسب على ما خوِّل منها، أوجب الله عليه استعمالها في ذكره وطاعته، والقيام بقسطه وحجته، ووضعها مواضع النفع في الدين والدنيا، والإنفاق منها بالمعروف لفظةً ولفظة، وصرفها عن أضدادها.

فلم يرض الإنسان أن عطلها عما خُلقت له مما ينفعه حتى استعملها في ضد ذلك مما يضرُّه، فاجتمع عليه الإثمان اللذان اجتمعا على صاحب المال الذي كنزه ومنعه من حقه، فوجب عليه إثم المنع وإن كان لم يصرفه في معصية، ثم صرفه في أبواب الباطل والفسق فوجب عليه إثم الإنفاق فيها. وهذه غاية الغبن والخسران. نعوذ بالله منها.

فاللسان أداةٌ مستعملة، لا حمد له ولا ذمَّ عليه، وإنما الحمد للحلم واللوم على الجهل. فالحلم هو الاسم الجامع لكل فضل، وهو سلطان العقل القامع للهوى. فليس قمع الغضب وتسكين قوة الشَّرَّة، وإسقاط طائر الخرق بأحق بهذا الاسم، ولا أولى بهذا الرسم، من قمع فرط الرضا وغلبة الشهوات،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015