الرسائل للجاحظ (صفحة 1043)

واعلم أن الله تعالى إنما خالف بين طبائع الناس ليوفق بينهم، ولم يحب أن يوفق بينهم فيما يخالف مصلحتهم؛ لأن الناس لو لم يكونوا مسخرين بالأسباب المختلفة، وكانوا مجبرين في الأمور المتفقة والمختلفة، لجاز أن يختاروا بأجمعهم التجارة والصناعة، ولجاز أن يطلبوا بأجمعهم الملك والسياسة. وفي هذا ذهاب العيش، وبطلان المصلحة، والبوار والتواء.

ولو لم يكونوا مسخرين بالأسباب، مرتهنين بالعلل لرغبوا عن الحجامة أجمعين، والبيطرة، والقصابة، والدباغة. ولكن لكل صنف من الناس مزين عندهم ما هم فيه، ومسهل ذلك عليهم. فالحائك إذا رأى تقصيراً من صاحبه أو سوء حذق أو خرقا قال له: يا حجام! والحجام إذا رأى تقصيراً من صاحبه قال له: يا حائك! ولذلك لم يجمعوا على إسلام أبنائهم في غير الحياكة والحجامة، والبيطرة والقصابة.

ولولا أن الله تعالى أراد أن يجعل الاختلاف سبباً للاتفاق والائتلاف، لما جعل واحداً قصيراً والآخر طويلاً، وواحداً حسناً وآخر قبيحاً، وواحداً غنياً وآخر فقيراً، وواحداً عاقلاً وآخر مجنوناً، وواحداً ذكياً وآخر غبياً. ولكن خالف بينهم ليختبرهم، وبالاختبار يطيعون، وبالطاعة يسعدون. ففرق بينهم ليجمعهم، وأحب أن يجمعهم على

طور بواسطة نورين ميديا © 2015