وكان الأعمش سيّء الخلق غلقا، وكان أصحاب الحديث يضجرونه ويسومونه نشر ما يحبّ طيّه عنهم، وتكرار ما يحدّثهم به، ويتعنّتونه، فيحلف لا يحدّثهم الشهر والأكثر والأقلّ، فإذا فعل ذلك ضاق صدره بما فيه، وتطلّعت الأخبار إلى الخروج منه، فيقبل على شاة) كانت له فيحدّثها بالأخبار والفقه، حتى كان بعض أصحاب الحديث يقول: «ليت أنّى كنت شاة الأعمش» .
وشكا هشام بن عبد الملك ما يجد من فقد الأنيس المأمون على سرّه فقال: أكلت الحامض والحلو حتّى ما أجد لهما طعما، وأتيت النساء حتى ما أبالى أمرأة لقيت أم حائطا، فما بقيت لي لذّة إلّا وجود أخ أضع بيني وبينه مؤونة التحفّظ.
وقال معاوية لعمرو بن العاص: ما اللذة؟ قال: تأمر شباب قريش أن يخرجوا عنا. ففعل، فقال: اللّذّة طرح المروءة.
وقد صدق عمرو، ما تكون الزّماتة والوقار إلا بحمل على النفس شديد، ورياضة متعبة.
وقال بعض الشعراء:
ألم تر أنّ وشاة الرجال ... لا يتركون أديما صحيحا
فلا تفش سرّك إلّا إليك ... فإنّ لكلّ نصيح نصيحا
والسرّ- أبقاك الله- إذا تجاوز صدر صاحبه وأفلت من لسانه إلى أذن واحدة فليس حينئذ بسرّ، بل ذاك أولى بالإذاعة، ومفتاح النّشر والهرة. وإنّما بينه وبين أن يشيع ويستطير أن يدفع الى أذن ثانية. وهو مع قلّة المأمونين عليه، وكرب الكتمان، حريّ بالانتقال إليها في طرفة عين.