ولم يزل أهل كلّ علم فيما خلا من الأزمنة يركبون منهاجه، ويسلكون طريقه، ويعرفون غامضه، ويسهّلون سبيل المعرفة بدلائله، خلا الغناء، فإنّهم لم يكونوا عرفوا علله وأسبابه ووزنه وتصاريفه، وكان علمهم به على الهاجس وعلى ما يسمعون من الفارسيّة والهندية إلى أن نظر الخليل البصريّ في الشّعر ووزنه، ومخارج ألفاظه، وميّز ما قالت العرب منه، وجمعه وألّفه، ووضع فيه الكتاب الذي سمّاه العروض، وذلك أنّه عرض جميع ما روي من الشّعر وما كان به عالما، على الأصول التي رسمها، والعلل التي بيّنها، فلم يجد أحدا من العرب خرج منها، ولا قصّر دونها. فلمّا أحكم وبلغ منه ما بلغ، أخذ في تفسير النّغم واللّحون، فاستدرك منه شيئا، ورسم له رسما احتذى عليه من حلفه، واستتمّه من عني به.
وكان إسحاق بن إبراهيم الموصليّ أوّل من حذا حذوه، وامتثل هديه، واجتمعت له في ذلك آلات لم تجتمع للخليل بن أحمد قبله، منها معرفته بالغناء، وكثرة استماعه إيّاه وعلمه بحسنه من قبيحه، وصحيحه من سقيمه.
ومنها حذقه بالضّرب والإيقاع، وعلمه بوزنها. وألّف في ذلك كتبا معجبة، وسهل له فيها ما كان مستصعبا على غيره، فصنع الغناء بعلم فاضل، وحذق راجح، ووزن صحيح، وعلى أصل مستحكم له دلائل صحيحة واضحة، وشواهد عادلة. ولم نر أحدا وجد سبيلا إلى الطّعن عليه والعيب له.