قالت: "أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد" وقد قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فلا ريب أن ما يجعله الله في النفوس وغيرها يجعله بعد إعدادها لذلك وتسويتها لما يلقى فيها فهذا ونحوه حق يقول به السلف وجمهور المسلمين وإنما ينكر ذلك من ينكر الحكم والأسباب من أهل الكلام.
والنبي صلى الله عليه وسلم بدئ أولا بالرؤيا الصادقة فانه رؤيا الأنبياء وحي معصوم كما قال ابن عباس وعبيد بن عمير وغيرهما: "رؤيا الأنبياء وحي" وقرأ قول إبراهيم عليه السلام {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم نقل من درجة إلى درجة ثم بعد هذا جاءه الملك فخاطبه بالكلام فأحيانا يأتيه في الباطن فيكلمه وأحيانا يتمثل له في صورة رجل فيكلمه ثم عرج به إلى ربه ليلة الإسراء.
فما ادعوه من أن الرؤيا قد يحصل بها معرفة المغيبات حق وهذا يحتج به على من ينكر هذا الجنس مطلقا ولكن لا تجعل النبوة كلها من هذا الجنس فمن الباطل ما ادعوه في النبوة وفي كيفيتها حيث زعموا أنه ليس هناك ملك حي يأتي بالوحي من الله ولا لله كلام يتكلم به يسمعه الملك فينزل به ولا يعرف الله جزئيات الأمور حتى يكتبها عنده أو حتى يخبر بها الملك والملك يخبر بها النبي أو يخبر بها النبي ابتداء.
وزعموا أنه ليس لله ما يدبر به أمر السموات والأرض إلا مجرد حركة الفلك وأثبتوا نبوة حال كثير من أحوال أوساط المسلمين خير منها فان كثيرا من أوساط المسلمين له من العلم والعمل أعظم مما أثبته هؤلاء للأنبياء فإنهم جعلوا خواص النبوة نوعين القوة العلمية التي ينال بها العلم أما بواسطة القياس المنطقي وأما بواسطة