بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ليس المراد به ما يذكونه من القياس البرهاني والخطابي والجدلي فان الأقيسة التي هي عندهم برهانية قد تقدم بعض وصفها وأنها لا تفيد قط إلا أمرا كليا لا يدل على شيء معين وتلك الكليات غالبها إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان والذي جاء به الرسول أمران خبر وأمر.
فأما الخبر فانه اخبر عن الله بأسمائه وصفاته المعينة وهذا أمر يعترفون هم أنه لا يعرف ببرهانهم وما اخبر به الرسول عن ربه عز وجل فهم من ابعد الناس عن معرفته وكفار اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أقرب إلى الرسول فيه منهم إليه وكذلك ما اخبر به عن الملائكة والعرش والكرسي والحنة والنار ليس في ذلك شيء يمكن معرفته بقياسهم وليس المراد بالعرش الفلك التاسع ولا بالكرسي الثامن كما قد بسط في موضع آخر ولو قدر أنه كذلك فليس هذا مما يعلم بالقياس المنطقي.
والرسول اخبر عن أمور معينة مثل نوح وخطابه لقومه وأحواله المعينة ومثل إبراهيم وأحواله المعينة ومثل موسى وعيسى وأحوالهما المعينة وليس شيء من ذلك يمكن معرفته بقياسهم لا البرهاني ولا غيره فان أقيستهم لا تفيد إلا أمورا كلية وهذه أمور خاصة.
وكذلك اخبر عما كان وعما سيكون بعده من الحوادث المعينة حتى اخبر عن التتر بما ثبت في الصحيحين عنه من غير وجه أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين ذلف الأنوف حمر الخدود ينتعلون الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة" فهل يتصور أن قياسهم وبرهانهم يدل على ادمي معين أو امة معينة فضلا عن أن يوصف بهذه الصفات قبل ظهورهم بنحو سبعمائة سنة