الوثنية كانت قائمة هناك، وغير القرآن من الكتب يشير أيضاً إلى ذلك. إذاً فالهياكل وطيدة الأركان قائمة الدعائم ضخمة البنيان هنالك من أزمان متوغلة في القدم، ولا يناطح الزمان إلا مثله في القوّة والبأس. ولقد اكتشف الألمان في هذا الزمان الآثار الموجودة في بعلبك وأمكنهم أن يصلوا إلى السرّ الّذي عجز عنه الأوّلون، ولو كان انكشف لهم في سالف الزمان ما كانوا قضوا أجيالاً كثيرة وأحقاباً طويلة وهم ملازمون للوثنية عاكفون على الأصنام، وما كانوا نازعوا رسل الله نزاعاً شديداً ولا جحدوا رسالة ربّهم وكفروا به، وما كان تأخّر العمران واِنتشار الحضارة في الأرض. لقد علم الألمانيون بالبحث الدقيق أن جوف الصنم بعل أجوف، وفيه فتحتان فتحة من أمام وفتحة من وراء وأن رئيس الكهنة كان يسيطر على الأمّة كلّها، ملكها ومملوكها، وكانت له الكلمة النافذة التي لا يستطاع ردّها ولا يمكن معارضتها. وذلك أنّه كان إذا استشير في أمر خطير يهمّ الملك والمملكة قال حتّى نتقرّب إلى الصنم وندعوه ويأذن لنا في هذا، فإن لم يأذن فلا
يكون هذا الأمر. ثمّ يذهب بعد ذلك إلى خادم خاص بالصنم، منعزل عن الناس، عاكف على الصنم واقف في خدمته، ويقول في غد آتي إلى هنا مع الملك وأشياعه ونقرّب القربان إلى الصنم وندعوه أن يبيّن لنا ما نحن بصدده، أنمضي في الأمر أم لا نمضي فيه. فإذا نحن جئنا وخشعنا أمام الصنم ودعوناه، فهنالك تكون قد وضعت البوق الطويل في الفتحة التي من خلفه قائلاً كذا وكذا. فما يكون من ذلك الخادم إلا أن يصدع بأمره، ويقوم بما أوحى إليه رئيس الكهنة، ولا يقول إلا ما أذن له في قوله، حين وقوفهم بين يدي الصنم واستشارتهم إيّاه، فلا يحصل أمر الملك والمملكة إلا كما يسمعون من الصنم. وعلى هذا النمط كانت أمور الكهنة مع الأمم في سائر الأرض الوثنية. ومن هنا تعلم أنّ الوثنية كانت جرثومة الفساد في الأرض وأصل الظلم العظيم، ولذلك حاربها الله تعالى محاربة شديدة حتّى يرجع الناس إلى الاعتماد على عقولهم التي ركبت فيهم وعلى أنفسهم، وحتى لا يخدعهم خادع ولا يصرفهم عن مصالحهم الّتي بين أيديهم صارف، فينتظم الكون وينتشر العمران في الوجود. ولقد بالغ محمد، صلى الله عليه وسلم، في التنفير من الكهانة والابتعاد عنها كثيراً، وما حكمة ذلك إلا أن تجري الناس على سنن الطبيعة وِفاق الفطرة والمصلحة. تلك سنّة الله في خلقه فهو يردّهم