أهدانا، ونحن خارجون، كتاباً مطبوعاً في تاريخ بعلبك من تأليفه. وهو كتاب جليل حوى في موضوعه أحسن المسائل التاريخية الحاضرة والأثرية لهذه المدينة العتيقة، فتقبلنا منه هديّته بالشكر والثناء.
يخرج السائح من قلعة بعلبك، بعد أن يتطوّف على دوائرها، ويتعرّف بواطنها بعد ظواهرها ويتفقّدها من أوّلها إلى آخرها، وإنه لقد حار في الأمر فكره وضاق بالعجب صدره. وبعد أن كانت المسألة عنده قاصرة على فخامة القواعد وضخامة المباني، تحوّلت إلى بحث واسع في موضوع علمي حافل بجليل المقاصد وجميل المعاني. وبعد أن كان ذلك الزائر يحصر نظره كلّه في دائرة لا تزيد عن أطوال وأعراض ومهارة عمّال وشطارة مهندسين، صار يجول في محيط عظيم من أطوار وأغراض السريانيين والكلدانيين، وممّا كان أصاب الناس من ضروب المذلّة والمهانة في العصر الماضية، عصر الأوثان والكهانة، تلك الّتي كان للكهنة فيها تأثير في سياسة الممالك مثل تأثير القياصرة والملوك أو هو فوق ذلك. وقد كان هذا التأثير نفسه هو الأصل الّذي عليه ترتكن الحكومة، عندما كانت تعمد إلى تشييد تلك المباني الضخمة، مثل قلعة بعلبك وحلب في الشام والأهرامات ومعبد الكرنك ومدينة هبو في مصر، وغير ذلك من الحصون والمعابد والمقابر التي نراها فيفزعنا منظرها ويهولنا شأنها والّتي لا تزال تتجلّى فيها فكرة مؤسّسيها وواضعيها يمرّ بعض الناس بهذه الآثار المدهشة مرّ الكرام على اللغو من الكلام
وغاية ما في الأمر أنّهم يعجبون من مناظر هذه الأشياء وظواهرها لأنّهم لم يعرفوها في عادتهم ولم يألفوها في قدرتهم، مثل إتقان البنيان وإحكامه إلى حدّ أنّ سنّ الإبرة لا يمكن أن ينفذ بين مداميكه وسافاته، أو قدرة البنائين والفعلة إلى درجة أنّهم يرفعون تلك الحجارة الثقيلة الهائلة إلى مسافة عظيمة حين لم يكن لديهم آلات لجرّ الأثقال ورفعها وما أشبه ذلك، ولكن الوقوف عند هذا الحدّ من مثل هذه الأعمال الخطيرة المفزعة قصر في النظر ثمّ هو عن الضالة المنشودة والغاية المطلوبة بمراحل طويلة، بل هو في نظري لا يزيد عن حدّ الوقوف عند