بمثل البساط السندسيّ، وأرسل النظر تارة أخرى إلى الجنوب فأشاهد مآذن دمشق الشاهقة بين مبانيها ومعالمها الفائقة، وقد أحاط بها سياج من الحدائق الفيحاء إحاطة النطاق
بخصر المشبوبة الهيفاء، فما أدرى وقتئذٍ إذا كنت أردّد البصر بين نضارة المزارع وجمال المدينة أم كنت أغازل عروساً بديعة الحسن في ثياب البهاء وشعار الزينة. ولكن ماذا كان يفيدني أن أكون أبلغ المتكلّمين فأصف ما كوّنته يد القدرة في هذا المقام الكريم بأفصح مقال وأوضح تبيين، أو أكون أحذق المصوّرين فيتحرك قلمي في رسم ذلك المنظر الفخيم بأبدع نقش وأبهر تلوين وأنه شتّان بين ما يقع في القلب من روعة المشاهدة والعيان وبين ما يصل إلى السمع من حديث التعريف والبيان.
يا اِبنَ الكِرامِ أَلا تَدنو فَتُبصر ما ... قَد حدّثوك فَما راءٍ كَمن سَمِعا
وعلى ذلك تمّت الرحلة على الصالحيّة.
ثمّ عدنا إلى الفندق وقد مررنا في أثناء الطريق بمدرسة الملك الظاهر بيبرس ومكتبة الحكومة الّتي جمعت عند قبره واِشتهرت في تلك الدائرة بادّخار نفائس الأسفار العربية وغرائب الكتب الفنيّة، ويقولون إنه قبل أن تتكون هذه المكتبة كانت الكتب متفرقة في عدّة أماكن متنائية، فكان يصعب على عشّاق العلم أن يصلوا إلى غايتهم من البحث والمراجعة في تلك الكتب. على أن تباعد مواضعها كان من أهمّ الأسباب لتدشينها ونقص بعضها بل ضياع عدد كثير منها. ولولا أن أتاح الله لها مدحت باشا فعني بجمعها وترتيبها لكانت اليوم في حيّز العدم، وكانت تكون دمشق كبيروت خالية من المكتبات العامّة الّتي لا تقل فائدتها في المجتمع عن المدارس. ثمّ إنّي كنت عجبت من أنّه كيف تكون بيروت خالية من الكتبخانات العامة وهي البلد الوحيدة التي اختصّت من بين سائر بلاد الشام بكثرة المدارس وانتشار العلوم والمعارف. ولا شك أن تأسيس مثل هذه المكتبة الجميلة المشتملة على الكتب القديمة في مدينة كبيرة يعدّ نهضة شريفة تبقى لمدحت باشا في تاريخه إلى