لا حاجة لنا برؤية الخيل ولا شرائها. وقد وصلناه بمكافأة مالية ترضيه، فانصرف بها إلى حال سبيله. أمّا نحن فقد اِعتبرنا ما ذكره لنا الخواجة بيترو نصيحة جميلة وشكرناها له في نفسنا. وبعد ذلك ركبنا عربة من باب الفندق وذهبنا جاعلين وجهتنا في أوّل الأمر ردّ الزيارات، فابتدأنا بزيارة سعادة محمد باشا العظم في داره الّتي كانت واقعة في داخل البلد الأصلية من ضمن العمائر القديمة. وهي من البيوت الأثريّة النفيسة شرقيّة الشكل، فيها ساحة من حولها الغرف، وفي الساحة أشجار وأغراس وبركة ماء، وقد تكون البرك في داخل الغرف أيضاً، والأرض كلّها مبلّطة بالرخام المرمر الجميل، وبعض السقوف والجدران مذهّبة أو مزخرفة بفاخر الفسيفساء. وقد كان أكثر البيوت الّتي زرنا فيها أصحابها من هذا القبيل، وإن كانت تتفاوت بالطبع في سعة المساحة وضخامة البناء. وبالجملة، فإن بيوت دمشق التاريخية تشبه كلّ الشبه البيوت القديمة في جميع بلاد الشرق، ومثل تلك البيوت في مصر بيوت الغزّ والسادات. وحقيقة، كانت بيوت دمشق التي زرناها جميلة المنظر دقيقة الصنع، يطالع فيها المتأمل درساً طويلاً من أهمّ دروس التاريخ الأثري. ومنها يعلم كيف كان غرام المتقدّمين وولعهم بالفنون البديعة والصنائع الدقيقة. نعم،
ويعرف أيضاً إلى أيّ درجة بلغت عنايتهم بزخرفة بيوتهم بالرسوم الفاخرة والأوضاع المحكمة. وقد كنت أدركت شيئاً من الفرق بين تلك الصناعة في بيوت الشام وبينها في بيوت مصر، فهي في الأخيرة أدق وأتقن منها في الأولى. وأظنّ أن هذا الفرق يمكن أن يدركه كلّ من زاول هذه الصناعة واِطّلع عليها في المدينتين. ولكنّي مع مزيد الأسف أقول: إن الصناعات القديمة والآثار التاريخية ليس لها مكان من قلوب المصريّين ولا نصيب من اِستحسانهم مثل ما لها من قلوب غيرهم، لأنّ معظم عنايتهم أو كلّها منصرفة دائماً إلى التقاليد الغربية والأنماط الإفرنكية، وبالأخص في العمارات الّتي غيّرت بالكليّة هيئة البلد وخرجت بها عن الشكل الشرقي بالمرّة. وأنه إذا كان بقي من ذلك البناء القديم بقيّة إلى اليوم، فإن ذلك من النادر القليل. وكم كنت جذلاً مسروراً من أنّ أهل الشام لا يزالون إلى اليوم محافظين على آثار أسلافهم وتاريخ عمائرهم، إذ أن أكثرهم ما فتئ يسكن البيوت العتيقة. ولا سبب لهذا في ما نعلم إلا أن العوائد الأوربية لم تتغلب عليهم ولم تنل