إنسان ويجعله دائماً في الصفّ الأوّل، ومن العزّ في المحلّ الأرفع والمكان الّذي لا يتحوّل، فإنّما هو العلم الصحيح. أقول الصحيح لأنّ كثيراً من العلماء لم ينفعهم علمهم في تحصيل ما قد أرادوه من سبيله، فاتّخذوا منه مطيّة إلى الشقاء وسبيلاًَ إلى الضلال. ومن أمثال هؤلاء تستنبط الحيل وتدبّر المكائد الّتي بها تفشو المضار وتكثر المفاسد. وإنّه لا غرابة أن يكون العلم سبباً من أسباب الشقاء، وهو بعينه أصل السعادة وطريقها، ما دامت تختلف عليه نوايا العاملين وتتفاوت في طلبه مقاصد العالمين. وإنّي لاأحدثكم بألذّ من عيش العالم العاشق للعلم فلقد تمرّ عليه الحوادث والعاديات فيطّلع عليها وهي لا تنال منه إلا ريثما تنال الصور المتحركة والخيالات العادية عن الحقائق. فمثل هذا يعيش ما قدر له أن يعيشه في هذه الدنيا مرتاح القلب مطمئن النفس، لا يفرح بشيء يأتيه كما لا يأسف على شيء يفوته، لأنّ ثروته كلّها في العلم، فهو به في غناء عن كلّ ما عداه. وهكذا كنت أبث نصائحي للتلاميذ كلّما دخلت مدرسة من مدارس الشام. وقد كنت أُلفتهم إلى ما كان للشرق في التاريخ الأوّل من المجد والعزّ وسعة نطاق المعارف وكثرة الصنائع والحرف، مبيّناً لهم أنّ بناء الشرق الشامخ وشرفه الباذخ لم يكن قائماً إلا على أساطين الحكمة وعماد
الفضيلة. فإذا كنّا نحسّ الآن بنقص عظيم في علومنا الحيوية وحاجاتنا الضرورية، فإنّما ذلك لأنّ الشرق ما زال لم يعوّض ما كان فقده من علمائه وحكمائه الّذين أخلصوا في خدمته وتفانوا في العمل على سعادته، إلى أن قلت لهم: إذاً، يجب عليكم بوصف أنّكم رجال المستقبل أن تستصحبوا دائماً في عملكم نيّة أن تكونوا أوّل العاملين على رقيّ البلاد وإعلاء شأنها وأن تسدّوا منها الفراغ العظيم وتكملوا فيها ذلك النقص الكبير وما ذلك على همّتكم ونشاطكم بعزيز.
هذا خلاصة ما دار بيننا وبين الطلبة من الحديث. وقد سرّني منهم كثيراً أنّي كنت أجدهم مصغين غاية الإصغاء لما أقول، وأنّ نصائحي نالت من نفوسهم غاية الاستحسان والقبول. وقد زادني إعجاباً بهذه النشأة الطيّبة ما أظهروه لنا من المبالغة في حبّ عزيزهم أمير البلاد وتعلّقهم الشديد بعرشه السامي وإخلاصهم الكبير لذاته الكريمة كما هو الواجب على كلّ شعب لأميره وحاكمه. نعم، وكما هو الواجب الّذي ينبغي أن تتربّى عليه النفوس من صغرها حتّى ينتقش فيها ذلك، فلا تحتّه