الْخَامِس قَوْله تَعَالَى {من عمل الشَّيْطَان} فَإِضَافَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ تُفِيدُ التَّحْرِيمَ فِي عُرْفِ الشَّرْع السَّادِس قَوْله فَاجْتَنبُوهُ وَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ يُسْكِرُ كَثِيرُهَا فَيَحْرُمُ قَلِيلُهَا قِيَاسًا عَلَى مَحْمَلِ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْأَقْيِسَةِ فَقَدِ اجْتَمَعَتِ الْآثَارُ وَوُجُوبُ الِاعْتِبَارِ وَالْعَجَبُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ يقدمُونَ الْقيَاس على النُّصُوص وَهَا هُنَا رَفَضُوا الْقِيَاسَ الْمَعْضُودَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَضَافِرَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسّنة الصَّحِيحَة فِي عدَّة مَوَاضِع وَلَا جرم قَالَ ش أَحُدُّ الْحَنَفِيَّ فِي النَّبِيذِ وَأَقْبَلُ شَهَادَتَهُ وَقَالَ مَالِكٌ أَحُدُّهُ وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ قَاعِدَةٌ الْمُرَقِّدَاتُ تُغَيِّبُ الْعَقْلَ وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهَا وَيَحِلُّ قَلِيلُهَا إِجْمَاعًا وَلَا يُنَجِّسُ قَلِيلُهَا وَلَا كَثِيرُهَا فَفَارَقَتِ الْمُسْكِرَاتِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَحْكَامِ مَعَ اشْتِرَاكِهَا فِي إِفْسَادِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فَمَا الْفَرْقُ وَبِمَاذَا يَنْضَبِطُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَمْتَازَ عَنْ صَاحِبِهِ فَالضَّابِطُ أَنَّ مُغَيِّبَ الْعَقْلِ إِنْ كَانَ يُحْدِثُ سُرُورًا لِلنَّفْسِ فَهُوَ الْمُسْكِرُ وَإِلَّا فَهُوَ الْمُرَقِّدُ لِقَوْلِ الشَّاعِرِ
(وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ)
وَأَمَّا الْمُرَقِّدُ فَإِمَّا غَيْبَتُهُ كُلِّيَّةٌ كَالْأَفْيُونِ أَوْ يُهَيِّجُ مِنْ مِزَاجِ مُسْتَعْمِلِهِ مَا هُوَ غَالب عَلَيْهِ من الخلاط فَتَارَةً خَوْفًا وَتَارَةً بُكَاءً وَغَيْرَ ذَلِكَ وَأَمَّا الْفرق فَلِأَن الْمُسكر لما أسر النَّفْسَ تَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى تَنَاوُلِهِ تَحْصِيلًا لِلْمَسَرَّةِ فَزَجَرَ الشَّرْعُ عَنْهُ بِالْحَدِّ وَالتَّنْجِيسِ وَالْمُرَقِّدُ خَسَارَةٌ مَحْضَةٌ وَمَوْتٌ صِرْفٌ فَالدَّوَاعِي مُنْصَرِفَةٌ عَنْهُ فَاكْتُفِيَ فِي ذَلِكَ بِالتَّعْزِيرِ