والكأس في فلك اللذات دائرةٌ ... تجري ونحن لها في دورها قطب
والدهر قد طرفت عنّا نواظره ... فما تروعنا الأحداث والنّوب
وكان محمد بن حازم، أحد الشعراء المطبوعين، يجيد كل فن يركبه ويأتي بالمعاني التي تستغلق على غيره. وكان أكثر شعره في القناعة ومدح التصون وذم الحرص والطمع.
وذكر محمد بن حازم هذا، قال: عرضت لي حاجة في عسكر الحسن بن سهل، فأتيته وقد كنت قلت في السفينة شعراً. فدخلت إلى محمد بن سعيد بن سالم الباهلي، فانتسبت له فعرفني وأنزلني وأكرم مثواي. ثم قال لي: ما قلت في الأمير؟ قلت: لم أقل بعد شيئاً. فقال رجل كان معي في السفينة: بلى، قد قال أبياتاً. فسألني أن أنشده إياها، فأنشدته:
وقالوا لي مدحت فتى كريماً ... فقلت: وكيف لي بفتىً كريم
بلوت الناس مذ خمسين عاماً ... وحسبك بالمجرّب من عليم
فما أحدٌ يعدّ ليوم خيرٍ ... ولا أحدٌ يعود على حميم
ويعجبني الفتى وأظن خيراً ... فأكشف منه عن رجل لئيم
تقيل بعضهم بعضاً فأضحوا ... بني أبوين قدّاً من أديم
فطاف الناس بالحسن بن سهل ... طوافهم بزمزم والحطيم
وقالوا سيدٌ يعطي جزيلاً ... ويكشف كربة الرجل الكظيم
فقلت مضى بذمّ القوم شعري ... وقد يؤتى البرىّ من السقيم
وما خبرٌ ترجّمه ظنونٌ ... بأشفى من معاينة الحليم
فإن يك ما تنشر عنه حقاً ... رجعت بأهبة الرجل المقيم
وإن يك غير ذاك حمدت ربي ... وزال الشك عن رجل حليم
وليس المال يعطفني عليه ... ولكن الكريم أخو الكريم
فلما أنشدته الشعر: قال: بمثل هذا تلقى الأمير؟ والله لو كان نظيرك لما جاز لك أن تخاطبه بهذا. قلت: صدقت، ولذلك قلت أني لم أمدحه. ولكني سأمدحه مدحةً تشبهه. قال: إفعل! ودخل إلى الحسن، فأخبره الخبر، وأنشده الشعر وعجبه من جودة البيت الأخير. فأمر بإدخالي عليه لغير مدح. فأدخلت. فأمرني أن أنشده الشعر، فاستعفيته: فلم يعفني، وقال: قد قنعت بهذا العذر، إذ لم تدخلني في جملة من ذممت! ومع هذا، فعلينا حسن مكافأتك. فأنشدته، فضحك وقال: ويحك! مالك وللناس تعمهم بالهجاء؟ حسبك الآن من هذا النمط وأبق عليهم. فقلت: قد وهبتهم للأمير! قال: قد قبلت، وأنا أطالبك بالوفاء مطالبة من أهديت له هدية فقبلها. ثم وصلني فأجزل. فقلت فيه، وأنشدته:
وهبت القوم للحسن بن سهلٍ ... فعوّضني الجزيل من الثواب
وقال: دع الهجاء وقل جميلاً ... فإن القصد أقرب للصواب
فقلت له: برئت إليك منهم ... فليتهم بمنقطع التراب
ولولا نعمة الحسن بن سهلٍ ... عليّ لسمتهم سوء العذاب
أكيدهم مكايدة الأعادي ... واختلهم مخاتلة الذئاب
وما مسخوا كلاباً غير أني ... رأيت القوم أشباه الكلاب
فضحك ثم قال: ويلك! الساعة ابتدأت بهجائهم ما أفلتوا منك بعد. فقلت: هذه بقية طفحت على قلبي، وأنا كاف عنهم ما أبقى الله الأمير.
قال: وكان محمد بن حازم قد نسك وترك شرب النبيذ. فدخل يوماً على إبراهيم بن شكلة، فحادثه وأكل معه، وجلس إبراهيم للشرب، وسأله أن يشرب معه، فامتنع، وقال:
أبعد خمسين أصبو ... والشيب للجهل حرب
سنٌّ وشيبٌ وجهلٌ ... أمرٌ، لعمرك، صعب
يا ابن الامام فهلاّ ... أيام عودي رطب
وشيب رأسي قليلٌ ... ومنهل الحبّ عذب
وإذ سهامي صيابٌ ... ونصل سيفي عضب
وإذ شفاء الغواني ... منّي حديثٌ وقرب
فالآن لما رأى بي ... العذّال ما قد أحبّوا
وآنس الرشد منّي ... قومٌ أُعاب وأصبو
آليت أشرب كأساً ... ما حج لله ركب