وكم وقفةٍ في دير قنّى وقفتها ... أُغازل فيه فاتن الطّرف أحورا

وكم فتكةٍ لي فيه لم أنس طيبها ... أمتّ بها عرفاً وأحييت منكرا

وهو أبو علي محمد بن الحسين بن جمهور القمي. وكان أبوه من رواة أهل البيت، صلوات الله عليهم، وحاملي الأثر عنهم.

وكان أبو علي ظريفاً، متأدباً، مليح الشعر والكتابة. وقد سافر في طلب العلم، وتطرح في مواطن اللعب، وعاشر أهل الخلاعة، وطرق الحانات والديارات. ثم أقام بالبصرة وحسنت حاله بها، وصارت له نعمة كثيرة.

ومن شعره في جارية كانت في القيان تعرف بزاد مهر جارية المنصورية، وكانت له معها في القيان أحاديث طريفة، ثم تأتى له أن اشتراها، قوله:

ربما استصعب واستب ... عد أمرٌ وهو داني

يأتي الانسان ما يه ... واه في صفو الزمان

فيرى المستخذىء الآ ... يس من نيل الأماني

قد حوى ما كان يرجو ... في اغتباطٍ وأمان

وقال أيضاً:

كم قد أرتنا صروف الدهر من عجب ... ومن محبّ شديد السقم والوصب

صفا له الدهر حتى نال بغيته ... ممن تعشّقه في أيسر الطلب

وأخباره معها ومع غيرها من القيان عجيبة.

قالت له زاد مهر هذه مرة، وهي في القيان، وقد دعاها: خذ لي الطالع في شيء قد أضمرته. فأخذ الطابع وزرقها فقال: سألت عن رجل عليل القلب، شديد الكرب، دائم الفكرة، طويل الحيرة، قد أشفى على أمر عظيم في طاعة إنسان عزيز. فضحكت، ثم قالت مسرعة: على بظر أم الكاذب! والله ما سألت إلا عن الثوب المصمت الذي وعدتني به، متى تبعث به إلي. فخجل، وبعث به إليها.

وطرز مرة منديلاً بهذه الأبيات، وأنفذه إليها:

أنا رسولٌ من فتىً عاشق ... آدمعه في خدّه جاريه

هذا ابن جمهورٍ فجودي له ... منك بما يهواه يا قاسيه

وليست النفس وإن شفّها ... حبّك يا مولاته ساليه

فردت المنديل، وقد طرزت في وسطه: أم من يسخر بنا حتى ينيكنا زانيه! وكتب إليها، وقد كانت هجرته: يا سيدة عبدها، والله، إن الذي بلغك باطل، لكنني أعترف به طاعةً لك، وأقول كما قال ربيعة الأسدي:

هبيني امرءاً أذنبت ذنباً جهلته ... ولم آته عمداً وذو الحلم يجهل

عفا الله عما قد مضى لست عائداً ... وها أنا ذا من سخطكم أتنصل

وقد قلت أيضاً:

أملي إن كنت أخطأ ... ت رشادي في هواك

فلقد أسهرت عيناً ... أرقت عند كراك

فاصفحي عني وجودي ... جعلت نفسي فداك

فوقعت على ظهر الرقعة: ما لك تغم نفسك، وتتنطع في كتب الأشعار؟ وجه إلي بالغلالة، وقد اصطلحنا! وله فيها.

باتت عداك كما أبيت ... ولقي حسودك ما لقيت

يا من شقيت بحبّه ... صل، لا شقيت كما شقيت

لا خنت عدك ما حييت ... ولا قطعت ولا نسيت

كن كيف شئت فإنني ... أرعى ودادك ما بقيت

وقال لها يوماً: يا قحبة! قالت له: يا ابن القحبتين! فقال لها: ويلك أقول لك يا قحبة، فتقولين لي يا ابن القحبتين؟ فقالت: نعم! أنا شموس، أرد بالزوج! وكنا نحضر مجلسه بالبصرة، فيملي أخبار أهل البيت، عليهم السلام. فإذا فرغ من الاملاء، ابتدأ جواريه فقرأن بألحان ثم قلن القصائد الزهديات. فإذا فرغن من ذلك، انصرف من انصرف واحتبس عنده من يأنس به، وعمل الغناء والشرب.

قال: وكان عبدون بن مخلد، أخو صاعد بن مخلد، عند وفاة أخيه وإطلاقه من الحبس، صابر إلى دير قنى، فأقام فيه وتعبد.

وكان عبدون هذا، ناقص الصنعة شديد التخلف. وبلغ مع ذلك مبلغاً عظيماً في أيام أخيه.

قال: فأهدت ريق المغنية إلى عبدون فاكهة مبكرة، فيها تين ورمان وغيرهما. فقال لكاتبه: اكتب إليها جواب رقعتها بشعر. فحلف أنه ما قال شعراً قط! فغضب عبدون غضباً شديداً، وقال: أنت بين يدي منذ سنين لا تحسن القصائد السبع؟ يا حمار، أكتب إليها:

قد أتتنا هديّتانك ... في يوم مهرجانك

وأكلنا من رمّانك ... لأنك جانجانتنا ونحن جانجانك

طور بواسطة نورين ميديا © 2015