ثم قال: غنوا فيه فجعلوا يفكرون. فقال المعتز لسليمان بن القصار الطنبوري: ويلك! ألحان الطنبور أصلح وأخف، فغن فيه أنت، فغناه فيه لحناً، فدفع إليه دنانير الخريطة وهي مائة دينار مكية فيها مائتان، مكتوب على كل دينار مها: ضرب هذا الدينار بالجوسق لخريطة أمير المؤمنين المعتز بالله. ثم دعا بالخلع والجواهر لسائر الناس.
قال: واصطبح المعتز يوماً ويونس بن بغا. وما رثي وجهان قط مثلهما حسناً. فما مضت ثلاث ساعات حتى سكرا، فقال المعتز:
ما إن ترى منظراً إن شئته حسناً ... إلا صريعاً تهاوى بين سكرين
سكر الشباب وسكرٍ من هوى رشا ... تخاله والذي يهواه غصنين
ثم أمر فتغنى فيه بعض المغنين.
ومن شعره في يونس، وفيه لحن في طريقة الرمل:
علّموني كيف أجفو ... ك على رغم من انفى
وجفائي لك يا يو ... نس مقرونٌ بحتفي
غير أن الله قد يع ... لم ما أُبدي وأخفي
فوقاني الله فيك الده ... ر أن يأتي بصرف
قال هرون بن عبد العزيز بن المعتمد: حدثني سعيد بن يوسف كاتب أبي، قال: كنت أتقلد خزائن الكسوة، وكان إذا أمر المعتز ليونس بشيء أخذت له أجل ما في الخزائن وأحسنه. وكان يبرني فلا أقبل بره. وربما دخل الخزانة فنجرته ومازحته. فقلت له يوماً يا سيدي، أنا عبدك وموفر لمالك، وأنت تشرف مسرور المعتصمي بالتحية الحسنة مما يكون بين يدي أمير المؤمنين، وأنا فلا تشرفني بمثل ذلك. فقال: الليلة نوبتك! فلما كان في الليل، بعث إلي بوصيف الخادم ومعه صينية ذهب فيها خوخ. فقل في نفسي ثم كبر إذ كان من مجلس الخليفة. فأخذت واحدة فنظرتها، فإذا هي قد شقت، وأخرج ما فيها وجعل مكانه ند معجون على مقدار ما كان فيها. فأجرت ما في جميعه، فكان شيئاً كثيراً.
وللمعتز في يونس وقد خرج وعاد:
الله يعلم يا حبيبي أنني ... مذ غبت عني هائمٌ مكروب
يدنو السرور إذا دنا لك منزلٌ ... ويغيب صفو العيش حين تغيب
وكانت البيعة للمعتز، يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وخلع لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. وقتل بعد الخلع بخمسة أيام، وسنه أربع وعشرون سنة وستة أشهر وأربعة عشر يوماً.
قال: وكانت قبيحة حرضت المعتز على الأتراك، وقالت: يا بني، أقتلهم في كل مكان. وأخرجت إليه قميص أبيه المتوكل مخضّباً بدمائه. فقال: يا أماه! إرفعيه وإلا صار القميص قميصين.
وذكر أحمد بن حمدون، قال: بنى المعتز في الجوسق في الصحن الكامل بيتاً قدرته له أمه ومثلت حيطانه وسقوفه، فكان أحسن بيت رئي. قال: فدعانا المعتز إليه، فكنا في أحسن يوم رئي سروراً. وخلف الستارة مغنية تغني أحسن غناء ليس لي بها عهد. قال: فنحن في ذاك، إذ دخل علينا خادم في يده طبق عليه مكبة. فوضعه في وسط البيت، وكان في يد المعتز قدح فشربه وشربنا، ثم قال للخادم: إرفع المكبة، فإذا رأس المستعين في الطبق. فلما رأيته شهقت وبكيت. فقال لي المعتز: يا ابن الفاعلة، ما هذا؟ كأنك داخلتك له رقة. فثاب إلي عقلي وتماسكت وقلت: ما كان لرقة، ولكني ذكرت الموت! فأمر الغلام برد المكبة ورفع الطبق. فرفعه. وكأن المعتز داخلته فترة، وكذلك جميع من حضر، وافترقنا عن الحال التي كنا عليها من السرور. قال: فنحن كذلك، إذ سمعنا وراء الستر ضجة أفزعتنا، فإذا امرأة تصيح وامرأة أخرى تشتم الصائحة، والصائحة تقول: يا قوم، أخذتموني غصباً ثم تجيئوني برأس مولاي فتضعونه بين يدي. فسمعنا صوت العود قد ضرب به رأسها. قال: وكان الشاتم لها والضارب قبيحة، وكانت الجارية من جواري المستعين. قال: فانصرفنا عن المجلس أقبح انصراف وقد تنغص علينا ما كنا فيه. ولم تمض إلا أيام يسيرة حتى وثب الأتراك على المعتز فقتلوه، ثم دعى بنا لننظر إليه، فدخلنا عليه في ذلك البيت، فإذا هو ممدود في وسطه ميتاً.