وذكر أحمد بن أبي داود، أن محمد بن عبد الملك، أشار على الواثق، لما ورد الخبر بوفاة عبد الله ابن طاهر، أن يخرج إسحق بن إبراهيم بن مصعب إلى خراسان، مكان عبد الله، فأجابه إلى ذلك، وأمره أن يكتب كتبه وينظر تجهيزه. قال: ووجه إلي الواثق فحضرت الدار، فرأيت محمد بن عبد الملك وإسحق بن إبراهيم جالسين، ومحمد يكتب الكتاب. فلما رآني، قلبه. فتفاءلت أن الذي هما فيه سينقلب. ودخلت إلى الواثق، فذكر لي خبر وفاة عبد الله بن طاهر، وأنه قد عمل على إخراج إسحق إلى خراسان، وأن يضم إليه خمسة آلاف رجل من الجند ويطلق أرزاقهم، وأن يطلق لاسحق خمسة آلاف ألف درهم معونة. فقلت: يا أمير المؤمنين، إسحق رهينة القوم عندك، فإن أخرجته لم يكن في يدك من القوم شيء؛ والجند، فأنت محتاج إلى الزيادة فيهم، فكيف تفرقهم، لا سيما مع ما ينفق فيهم، وإخراج هذه الأموال لا وجه له. وها هنا ما هو خير من ذلك. قال: وما هو؟ قلت: طومار بدرهمين تكتب فيه إلى طاهر بن عبد الله بالتعزية عن أبيه وبتجديد الولاية له، وتربح ما تنفقه، وتكون قد أتممت الصنيعة عند عبد الله وولده وأحسنت الخلافة فيه. فقال: الصواب ما قلت! وأمر محمد بن عبد الملك بذلك والاضراب عما كان عمل عليه.
وكانت مدة حياة عبد الله بن طاهر، ثمانياً وأربعين سنة.
فأما طاهر بن الحسين، فكان من سروات الناس، وذوي الراي والبأس، سماه المأمون بذي اليمينين، فكان يكتب وكاتب بها.
وسأل المعتصم جماعة من خواصه عن معنى تسمية طاهر بذي اليمينين فلم يعرفوه. فقال محمد بن عبد الملك: معناه: ذو الاستحقاقين، استحقاق بجده ودنو في الدولة، وكان أحد النقباء؛ واستحقاق بما له في دولة المأمون. قال الله تعالى: لأخذنا منه باليمين أي بالاستحقاق. وقال الشاعر:
إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تلقّاها عرابة باليمين
ذكر جبهان الشيعي، قال: كان الحسين بن مصعب جيد الرأي حسن الاصابة بالظن. قال: كنت يوماً في دار علي بن عيسى بن ماهان وقد أمر بطاهر بن الحسين، فشد بحبل إلى سارية، فقال لي الحسين: أما ترى هذا المشدود، يعني ابنه، ليقتلن صاحب هذا القصر. فجرى هذا القول عندي مجرى الهزل. ثم كان من أمرهما ما كان، فعجبت من قول الحسين.
قال: ولما أنفذ الأمين علي بن عيسى بن ماهان في الجيوش إلى خراسان، لأخذ المأمون وإنفاذه إليه، عقد المأمون لطاهر بن الحسين على أربعة آلاف، ووجهه إلى الري لحرب علي بن عيسى. فكتب إليه علي بن عيسى أن يقيم له الميرة ولم يكن يظن أنه يحاربه.
قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: فحدثني عبد الرحمن بن فهم، عن عمه، قال: شخصت أريد المأمون، فدفعت إلى عسكر طاهر يوم الوقعة، فرأيته يعبىء الصفوف، ويذهب ويجيء، وبيده كسر من خبز. ومع غلام له كوز من رصاص فيه ماء. فقلت: أيها الأمير، ليس هذا وقت أكل! قال: معذرة إليك وإلى من لا يعرف خبري. ما دخل جوفي طعام منذ ثلاث، لشغلي بهذا الأمر، وتخوفت أن أحتاج إلى نفسي فتخونني في هذا الوقت. ففعلت ما رأيت. فقلت: الأمير أخبر بما يعاني.
قال عبيد الله: وحدثني جماعة من شيوخنا، قال: لما أقبل جيش علي، كان صاحب علمهم حاتم الطائي، وكان قد ضرب ثمانمائة سوط حتى ذهب لحم اليتيه. وكان عظيم الخلق شديد البأس، وكان له أربعة غلمان يحملونه حتى يقعد في سرجه، فإذا استوى في سرجه عد بألف فارس. قال طاهر: فجعلته وكدي وحملت عليه. فلما دونت منه، إذا به كفراً في الحديد لا تخلص إليه الضربة. فرأيت أمراً هالني. فقلت: ليس إلا أن أضربه على البيضة، فإن عمل السيف فيها، وإلا فهو التلف. فجمع يدي ثم ضربته على رأسه. فقددت البيضة والرأس، حتى نشب السيف بين ثناياه. قال: فلما قتل حاتم، اضطرب القوم. وكان علي بن عيسى راكباً في قبة، فنزل عنها وقدم إليه شهري أصدأ أرجل ليركبه، فطعنه داود سياه قبل أن يتمكن في سرجه فقتله وهو لا يعرفه. وصار إلى طاهر فقال: قد قتلت قاضي العسكر، ثم أتى برأسه. فنادى منادي طاهر: من أخذ شيئاً فهو له، وبرئت الذمة ممن سفك الدماء. وكتب إلى المأمون وذي الرئاستين: كتابي، ورأس علي بن عيسى بين يدي، وخاتمه في إصبعي، والسلام.
ثم سار طاهر إلى بغداد، فكان من أمره ما كان.