وذل وإطراقٌ وفكر وحسرةٌ ... وأعظم منها ما تجنّ الأضالع
قال عبد الله بن المعتز: كتبت إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر حين ولي ابنه خلافة يونس على شرط بغداد:
فرحت بما أضعافه دون قدركم ... وقلت عسى قد هب من نومه الدهر
فترجع فينا دولة طاهرية ... كما بدأت والأمر من بعده الأمر
عسى الله، إن الله ليس بغافلٍ ... ولا بد من يسر إذا ما انتهى العسر
فأجابه عبيد الله بن عبد الله:
فنحن لكم إن مسّنا ضيم جفوةٍ ... ومنا على لأوائها الصبر والعذر
فإن رجعت من نعمة الله دولةٌ ... إلينا، فمنّا عندها الحمد والشكر
ولعبيد الله شعر كثير وأخبار طريفة، اخترنا منها ما يليق بغرض الكتاب ولا يخرج إلى حد الاطالة.
وكانت وفاة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ليلة السبت، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلثمائة. ولما توفي، وجهت شغب والدة المقتدر بالله بأم موسى القهرمانة إلى ولده وحرمه فعزتهم عنه، وكفنته بكفن حظيري، وتصدقت في جنازته بألف دينار وألف درهم، وقامت بجميع أمورهم.
وأما أخوه محمد بن عبد الله بن طاهر، فكان كريماً سرياً جواداً سمحاً حسن الأخلاق مع أدب وحسن معرفة وافتنان في سائر العلوم، وضبط وسياسة وتقدم في التدبير. وكان المتوكل استدعاه من خراسان لما مات إسحق بن إبراهيم الطاهري ومحمد ابنه، وولاه خلافته ببغداد، فأقر أخاه طاهر بن عبد الله على خراسان، وكان أكبر أخوته.
ذكر الشاه بن ميكال، أن بعض البزازين، عرض على محمد بن عبد الله بن طاهر ثوبي وشي، فعرفهما وعلم أنهما من ثيابه، فأحضر إبراهيم بن هارون النصراني قهرمانه، فأمره أن يحضر الثوبين اللذين من صفتهما كيت وكيت، فذكر أنه لا يعرفهما، وأنه رجع إلى الاحصاء، فلم يجدهما فيه، ورجع إلى الديوان فوجدهما ثابتين فيه، أبتيعا بألف وخمسمائة دينار. قال: فسألت عن الخبر، فأخبرت أن الكاتب في الخزانة باعهما وأسقط من الاحصاء عددهما. فأمر بحبس الكاتب. وقال لابراهيم: ويلك! تستكتب من يقدم هذا الاقدام؟ فحلف أنه ما وقف على مثل هذه الحال منه ولا عرف له مثل هذه الزلة. فقال: إن كان الأمر كذلك فليطلق، وأمر له بخمسمائة دينار، وقال له: تعفف بهذه، فإني أظن الخلة حملتك على ذلك، ورد الثوبين على التاجر وأطلقه.
قال: وكنا يوماً عند إسحق بن إبراهيم بن مصعب، فقدمت المائدة، وكن قد تقدم بعمل هريسة، فقدمت إليه الهريسة، فنظر إليها، فرأى شعرة، فأومأ إلى بعض غلمانه بشيء لم نفهمه. فما لبث أن جاء بطيفورية عليها مكبة، فوضعها ورفع المكبة، فإذا يد الطباخ بدمها في الطيفورية. فرفعنا أيدينا، وتنغص أكلنا مما ورد علينا، وقمنا وليس منا أحد ينتفع بنفسه.
ثم اجتمعنا بعد ذلك بدهر على مائدة محمد بن عبد الله بن طاهر، وكان قد تقدم بإصلاح لون اشتهاه، فعمل له، وجاء به الطباخ بنفسه حرصاً على التقرب من قلبه. فلما قرب منه، عثر لعجلته، فأفلت الطيفورية على محمد، فصارت ثيابه وما تحته من فرش آية، فقام للوقت، فغير ثيابه واغتسل وعاد إلينا بوجه طلق لم يؤثر فيه ما جرى، وجلس على المائدة، ثم قال: علي بفلان الطباخ، فجيء به وهو لا يشك في حلول النقمة. فقال له: أحسبنا قد رعناك، أنت حر لوجه الله جل وعز. وفلانة الجارية لك وقد زوجتكما، وأمر له بصلة وكسوة. فأقبلنا بالدعاء له، وتعجبنا من فعله وذكرنا فعل إسحق.
قال: كان ابن أبي فنن، ويكنى أبا عبد الرحمن شاعراً مطبوعاً، وكانت له ضيعة في قطيعة محمد بن عبد الله بن طاهر. فكان الحاشر يصير إليه فيؤذيه، وربما أشخصه، فكتب إلى محمد يشكو الحاشر وما يلقى منه من الاعنات:
أبني حسين أنني ... أصبحت في كنف الأمير
ولنا معايش في قطي ... عته على الماء النمير
وبنيت بيتاً وسطه ... سميته بيت السرور
فإذا جلست إزاءه ... وشربت من حلب العصير
قلت العفا لما روي ... ت على الخورنق والسّدير
لولا تردد حاشرٍ ... كالكلب في يوم مطير
غادٍ علي ورائح ... يصل الرواح إلى البكور