فأجابه عبيد الله بن عبد الله: أطال الله بقاء السيد المؤمل للدنيا والدين، وابن السادة المنعمين، والخلفاء الراشدين، والآباء المنتجبين، وزاد الله السيد تشريفاً وتفضيلاً، وأدام له العز والسعادة والكرامة والغبطة والسلامة، وجدد له النعم الظاهرة والمنن المترادفة، وجعلني من كل سوء ومكروه فداه، وقدمني إلى كل مرهوب ومحذور قبله.
وصل كتاب السيد، أطال الله بقاءه، مملوءاً بالبر والفضل والانعام والتطول وفرائد الأدب وجوامع المحاسن. فتلقيته بحقه من الاعظام والشكر والمعرفة بعلو قدره وارتفاع درجته وارتقاء رتبته في حسن التأليف واتفاق المعاني وجليل الصواب وجميل الخطاب. ولقد رفع الله الأدب والعلم ونواظر أهلهما بالسيد، أيده الله بعنايته وقدرته. فأما المشاركة فمعهودة من تفضله، حتى لو قلت أن التعزية بهذه المصيبة التي لحقتني لو شوفوه بها وعزى عنها جرى الأمر مجراه ووضع القصد في أحق مقاصده. وأما الصبر فهو الذي لا بد منه اضطراراً أو اختياراً.
إذا ما أصابت ذا حياةٍ مصيبة ... فقابلها منه التحمل والصبر
فما بعدت من أن تحوّل نعمةً ... يحق عليها الحمد لله والشكر
وأما الجزع، فما أصاب وأوجع وألم وروع، فلا محيد عنه. وإذا لم يتعد العين والقلب إلى البدن واللسان فخطبه أسهل، وشكر المولى المخفف للمحن والمتمم للنعم، المفزع في النوائب والعصمة في المصائب. ولو كان طول الامتاع، أعز الله السيد، يسلى لا يسلو عنه إلا لمن ساعده ووهى عقده لما عمل عليه مميز نظار، ولو كان على أشد المضض وأمر الغصص ولوعة الأبد ودوام الكمد، وأقول:
أسرّ أمور الدهر صار أغمّها ... وكل جديد صار بعدك باليا
فأعجب من شهدٍ تحوّل علقماً ... ومن ضاحكٍ لم يعد أن ظل باكيا
وأما السلوة، أعز الله السيد، فليست من فعل الأحرار المخلصين لا في محيا ولا في ممات، إنما هو اغتنام الاحتساب واتصال الأكساب والعياذ بالله من فقد العزاء وفقد أجره. وبالله يا سيدي، إن الشخص لخاشع وإن الطرف لدامع وإن القلب لحران موجع. ولقد صادفت هذه الحال بدناً ما فيه عضو صحيح، أسقام متطاولة ومصيبة موصولة بما بقي من الزمن.
وبينا الفتى يبكي ويندب شجوه ... ومألوفه إذ صار يبكى ويندب
وأما ما ذكره السيد، جعلني الله فداه، من أمر العلة التي لا كانت ولا سمع لها بذكر أبداً، فإنه لولاها لكان وكان مما لا ينطلق بذكره اللسان. وأنا أعيذه بالله العظيم الذي فضله بكل خلق كريم من تعنيف الفعل الذي لا يجزي أدناه أقصى الشكر ففيما سلف من المخاطبة والمشاركة ما يبلغ أقصى منازل الشرف، وحاول أعلى مآثر الفخر؛ وأنا أفاوض السيد، أطال الله بقاءه، الشيء بعد الشيء، مما نطق به الحزن، وأبثه إياه. فمن ذلك:
وقعت على الأحباب والترب دونهم ... بنفسي وجوهٌ تحت تلك المقابر
ومثل لي ما نال من حسنها البلى ... فسبحان ربّي عالماً بالسرائر
ثم بعث إليه بعدة قصائد قالها فيها.
قال: ولما اختلت حال عبيد الله، بعث إليه المعتضد يسأله أن يفسح لشاجي في زيارته، فشق ذلك عليه، واحتج بأنها عليلة ومختلة الهيئة. فلج في طلبها حتى ظهر منه تهديد له. فبعث بها إليه. فذكر عنها أنها قالت: احتقرت نفسي حين دخلت على جواريه، لما رأيت عليهن من حليهن وحللهن، وحقرنني هن أيضاً حتى غنيت وغنين، فانتقل إعظامي لهن إلي منهن. فلما خرجت، حمل معها المعتضد عشرة آلاف درهم وكسوة وطيب. فجاءت شاجي وعبيد الله واله. فلما رآها سري عنه، ثم قال لها: هل رأيت شيئاً لم تري مثله عندنا فاستحسنته؟ فقالت: لا والله، إلا عوداً من عود، وذلك أنه محفور لا مبني، فاستطرفته. قال جحظة: فما قولك فيمن يدخل دار الخلافة فلا يمد عينه لشيء يستحسنه فيها إلا عوداً.
قال: وكان مما صنعته وغنته ذلك اليوم للمعتضد
ماذا استعار الحسن من وجهه ... والغصن الناعم من قدّه
لقد تعاتبنا بأبصارنا ... فيما جناه الخلف من وعده
حتى تجارحنا بتكرارنا ... للّحظ في قلبي وفي خده
فأدرك الثأر وأدركته ... وسرني بالصدّ عن صده
وكان مما غنته أيضاً: