دع عنك خُفي حنينٍ ... واحرص على حلّ ريقك
تعال نحتال فيما ... تهوى برفقي ورفقك
ثم صرت إليه. فأخبرني بقصته، فسعيت له بلطف الحيلة، وأعانني بحزم الرأي، إلى أن فاز بالظفر وأدرك البغية.
وهذا الدير على شاطىء دجلة، بين سامراء وبغداد. وهو دير حسن، عامر، نزه، كثير البساتين والكروم. وهو أحد المواضع المقصودة والديارات المشهورة. والمنحدرون من سر من رأى، والمصعدون إليها، ينزلونه. فمن جعله طريقاً، بات فيه وأقام به إن طاب له. ومن قصده، أقام الأيام في ألذ عيش وأطيبه، وأحسن مكان وأنزهه! ولأبي العيناء فيه، وكان نزله وأقام به أياماً، واستطابه، وقال فيه:
نزلنا دير باشهرا ... على قسيسه، ظُهرا
على دين أيسوع ... فما أفتى وما أسرا
فأولى من جميل الفع ... ل ما يستعبد الحرا
وسقّانا وروانا ... من الصافية العذرا
وطاب الوقت في الدير ... فرابطنا به عشرا
وسُقّينا به الشمس ... وأُخدمنا به البدرا
وأحيت لذّة الكأس ... ولكن قتّلت سكرا
ونلنا كل ما نهوا ... هـ من لذاتنا، جهرا
تصابينا، وغنّينا، ... وأرغمنا به الدهرا
فنكنا، وتهتكنا، ... ومثلي هتك السترا
وقد ساعدنا ربّن ... طوعاً منه، لا جبرا
جزاه الله عن خير ... به قابلنا خيرا
فقد أوسعته شكرا ... كما أوسعنا برا
وكان أبو العيناء من الطياب. وكان المتوكل يعجب بكلامه وسرعة جوابه ونوادره. وعمي على رأس أربعين سنة من عمره. ومما يدل على ذلك، قول أبي علي البصير، فيه:
قد كنت خفت يد الزما ... ن عليك إذ ذهب البصر
لم أدر أنك بالعمى ... تغنى ويفتقر البشر
وكان حسن الشعر، جيد العارضة، مليح الكتابة والترسل، خبيث اللسان في سب الناس والتعريض بهم.
ونحن نذكر طرفاً من أخباره، بمقدار لا يخرج إلى الاطالة، ولا يخل بالشرط.
قال المتوكل لأبي العيناء: ما أشد شيء مر عليك في ذهاب بصرك؟ قال: فوات رؤيتك يا أمير المؤمنين، مع إجماع الناس على جمالك.
وقال له يوماً: يا محمد، إلى كم تمدح الناس وتذمهم؟ قال: ما أساءوا وأحسنوا.
وقال له عبيد الله بن سليمان: قد أمرنا لك بشيء في هذا الوقت، فخذه واعذر. قال: لا أفعل، أيها الوزير! إذا كنت في النكبة تعتذر، وفي الدولة تعتذر، فتى لا تعتذر؟ وسأل صاعد بن مخلد كتاباً يكبه إلى مصر. فجعل يقول: إلى مصر يا أبا العيناء إلى مصر؟ فقال: وما استبعادك، أعزك الله، لي مصر؟ والله! لما في صناديقك أبعد علي مما في مصر! وخل إلى أبي الصقر، فقرب مجلسه وأدناه، فقال: أيها الوزير! تقريب الولي وحرمان العدو! ودخل عليه يوماً، فقال: ما أخرك عنا، أبا عبد الله؟ قال: سرق حماري! قال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللص، فأعرف كيف سرقه! ثم جاءه بعد مدة، فقال: ما أخرك عنا أبا عبد الله؟ فقال: من العواري وذلة المكاري. فأمر له بخمسين ديناراً.
قال: دخل أبو العيناء يوماً إلى محمد بن عبد الملك الزيات، فلم يرفع طرفه إليه، ولا كلمه! فقال: إن من حق نعمة الله عليك، لما أهلك له في الحال التي أنت عليها، أن تجعل البسطة لأهل الحاجة إليك خلقاً، فإن من أوحش انقبض عن المسئلة، وبكثرة السؤال مع النجح يدوم السرور، وبقضاء الحاجات تدوم النعم. فقال له محمد: إني أعرفك فضولياً كثير الكلام. ترى، إن طول لسانك يمنع من تأديبك إذ زللت؟ وأمر به إلى الحبس! فكتب إليه أبو العيناء من الحبس: قد علمت أن الحبس لم يكن لذنب تقدم إليك، ولكن أحببت أن تريني قدرتك علي، لأن كل جديد يستلذ. ولا بأس أن ترينا من عفوك ما أريتنا من قدرتك! فأمر بإطلاقه.
فلقيه بعد مدة طويلة على الطريق، فحبس محمد دابته وقال: ما أراك أبا عبد الله تواصلنا بحسب انجائنا لك! فقال أبو العيناء: أما المعرفة بعنايتك فمتأكدة، ولكنني أحسب الذي جدد استبطاءك لي فراغ حبسك ممن فيه، فأردت أن تعمره بي!