وسالمت الأيام فيه وساعفت ... وصارت صروف الحادثات بمعزل
يدير علينا الكأس ظبيٌ مقرطق ... يحثّ بها كأساتها ليس يأتلي
فيا عيش ما أصفى، ويا لهو دم لنا، ... ويا وافد اللذّات حيّيت فانزل
وهو أبو الطيب، محمد بن القاسم النميري. وكان من أهل الأدب والفضل، مليح الشعر، رقيق الطبع. وكانت له حال ونعمة. وكان يكثر الشرب في الديارات والحانات، ويلذ له ذلك.
وكان عبد الله بن المعتز، يأنس به ولا يفارقه، وكانت تجري بينهما مكاتبات ومناقضات في الشعر ومداعبات طيبة. ونحن نذكر منها: قال عبد الله بن المعتز: كتب إلي النميري يوماً، وقد دعوته:
رأيتك تدعوني إلى الشرب معتماً ... وتقطع عني الشرب والليل ممتع
فأما شربت الراح ليلك كلّه ... وإما شربت الراح والشمس تلمع
فأيهما آثرت وفيت حقّه ... وذاك الذي تهواه شرب مخلع
قال: وكتبت إليه في يوم عيد، ولم يكن جاءني ذلك اليوم:
بأبي، هلا حلا بعينك شيء ... هو أسلاك، يا خليلي، بعدي
طعم كأسي مرٌّ، إذا لم تزرني ... وهو حلوٌ، إذا رأيتك عندي
فكتب إلي:
سيدي أنت لم تردني فماذا ... حيلتي إذ بليت منك بصدّ
يعلم الله ما أُقاسيه من شو ... قي ومن حسرتي وغمي ببعدي
قال عبد الله، وكتبت إليه مرة أدعوه، فكتب إلي: عندي قوم، ولعلي أتخلص منهم. وعلق الوعد. فكتبت إليه:
يا من يسوّف وعدي ... لو شئت جئت بمرّه
فاسقط علينا سقوطاً ... ولا ترفرف لغدره
فإن ضبطت بساقي ... ك بعد هذي المرّه
لأحبسنّك عندي ... على أذىً ومضره
قال عبد الله: وكتب إلي النميري في آخر شعبان:
يا أبا العباس، قد ش ... مّر شعبان إزاره
ومضى يسعى فما يل ... حق إنسان غباره
فاغد نشرب صفوة الدّ ... نّ ونسلبه وقاره
وإذا ما ذكر العق ... ل شربنا يا دكاره
قال: وكتب إلي، وقد تأخر اجتماعنا:
بكم الموت في الجماعة خيرٌ ... من حياةٍ في وحشة وانفراد
عرّفوني اجتماعهم يومهم ذا ... واستبدّوا عليّ في الميعاد
والحريري رأسهم وبحسبي ... بالحريري رأس كلّ فساد
إن رأى قينةً تحرك للعش ... ق وأرخى جناحه للسفاد
وتصدى لها وحرّك عطفي ... هـ وراقت لشهوة الأولاد
فاعتذرت إليه، وسألته المصير إلينا، فجاءنا.
قال عبد الله: وكتب إلي:
إذا غبت لم أُطلب، وإن جئت لم أصل ... وللعتب أولى بي ولست بعاتب
سأصبر للشوق المبرّح كارها ... وأرقب يوماً صالحاً في العواقب
وما كل من صاحبته مثل قاسم ... فقسه وفكّر في سبيل الذواهب
قال وكتب إلي في يوم خميس صمته:
أبا العباس يا خير الأنام ... تصوم، وليس ذا يوم الصيام
فهل لك في مدام أخ ظريف ... يساعد في الحلال وفي الحرام؟
قال: كتب إلي النميري، يستبطىء رسولي ويعتذر من تأخره عني ويذكر أنه اشتغل بعمارة بستانه. فأجبته: أما ما ذكرت من تأخر رسولي عنك للسؤال عن خبرك في هذه الأيام والتفقد لك، فإني رأيتك قلبت قول القائل: خذ اللص من قبل أن يأخذك! وإلا، فما قصرت في السؤال عنك والبعثة إليك. ولكن ما أقول لمن نكس عليله فلم يعده؟ واشتاق إليه فم يزره؟ مشتغلاً بطروق الحانات والديارات، وركوب الزلالات، ومغازلة القيان، ومعاقرة ابنة الدنان، جامعاً بين طرفي نهاره بغبوق لا يهدأ سامره، وصبوح لا يفتر باكره، في عسكري لهو: واحد يخبط الماء بمجاذيفه، وآخر يقرع الأرض بخببه ووجيفه. وسألت عن خبري في هذه الأمطار، فما عسيت أن أقول في المنة الواجب لله تعالى الشكر عليها، إذ تخطتنا بعد أن سلت سيفها وخفنا حيفها.
قال عبد الله: وكتب إلي النميري:
أميرٌ كنت أرجوه لدهري ... إذا ما ناب بالخطب الجليل