وهذا الدير بالبردان، على شاطىء دجلة. وبين البردان وبغداد بساتين متصلة ومتنزهات متتابعة. منها إلى بلشكر، ثم إلى المحمدية، ثم إلى الطولوني الصغير، ثم إلى الطولوني الكبير، ثم إلى البردان. كل ذلك بساتين وكروم وشجر ونخل.
والبردان، من المواضع الحسنة، والبقاع النزهة والأماكن الموصوفة. وهي كثيرة الطراق والمتنزهين.
وهذا الدير بها. وهو يجمع أحوالاً كثيرة، منها: عمارة البلد، وكثرة فواكهه، ووجود جميع ما يحتاج إليه فيه؛ ومنها أن الشراب هناك مبذول، والحانات كثيرة؛ ومنها أن في هذا الموضع ما يطلبه أهل البطالة والخلاعة من الوجوه الحسان، والبقاع الطيبة النزهة، فليس يكاد يخلو.
ولعبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، فيه:
يا دير قوطا، لقد هيجت لي طربا ... أزاح عن قلبي الأحزان والكربا
كم ليلة فيك واصلت السرور بها ... لما وصلت لها الأدوار والنخبا
في فتية بذلوا في القصف ما ملكوا ... وانفقوا في التصابي المال والنشبا
وشادن ما رأت عيني له شبهاً ... في الناس، لا عجماً منهم ولا عرباً
إذا بدا مقبلاً، ناديت: واطربا! ... وإن مضى معرضاً، ناديت: واحربا!
أقمت بالدير حتى صار لي وطناً ... من أجله، ولبست المسح والصلبا
وصار شماسه لي صاحباً وأخاً ... وصار قسيسه لي والداً وأبا
ظبي، لواحظه في العاشقين ظبى ... فمن دنا منه مغتراً، بها ضربا
إن سمته الوصل أبدى جفوة ونبا ... أو سمته العطف ولى معرضاً وأبى
وإن شكوت إليه طول هجرته ... وما ألاقيه من إبعاده قطبا
والله، لو سامني نفسي سمحت بها ... وما بخلت عليه بالذي طلبا
وكان عبد الله هذا، من الأدباء الظرفاء، وكان صاحب غزل ومجون، كثير التطرح في الديارات والحانات، والاتباع لأهل اللهو والخلاعة! وله شعر مليح يغنى فيه ويتغنى هو أيضاً فيه وفي غيره.
وقال له محمد بن عبد الملك الزيات يوماً: أنشدني من شعرك. قال: وما قدر شعري، أيها الوزير؟ قال: ألست الذي يقول:
وشادن رام، إذ مرّ ... في الشعانين، قتلي
يقول لي: كيف أصبح ... ت؟ كيف يصبح مثلي؟
من يقول هذا، يقول ما مقدار شعري؟ قال: وكان عبد الله تعشق عساليج، جارية عمته رقية، فقالت له بذل الكبيرة: أرني عساليج، فإما عذرتك وإما عذلتك! قال: فدعاها إلى منزله، وحضرت بذل، فابتدت عساليج، فغنت:
أأن خنتم بالغيب عهدي فما لكم ... تدلون إدلال المقيم على العهد
صلوا وافعلوا فعل المدلّ بوصله ... وإلا، فصدوا وافعلوا فعل ذي الصد
فأتت فيه بكل شيء حسن. فقال لبذل: كيف ترين يا ستي؟ فقطعت عساليج الغناء، وقالت: يا عبد الله، تشاور فيّ؟ فوالله ما شاورت فيك حين وددتك! فنعرت بذل وقالت: ايه! أحسنت والله يا صبية! ولو لم تحسني شيئاً ولا كانت فيك خصلة تحمد، لوجب أن تعشقي لهذه الكلمة؛ أحسنت والله؟ ثم قالت: أحسنت والله يا عبد الله، عذرتك! ومن شعر عبد الله:
اسقني الراح، قد خلعت العذارا ... وتحملت فيك قالاً وقيلا
اسقني طارد الهموم ولا تم ... زج منه الغداة إلا قليلا
ومن شعره:
يا حبذا يومي بالدالية ... نشربها قفصيّةً صافيه
مع كل قرم متلفٍ ماله ... لم تبق في الدنيا له باقيه
فخذ من الدنيا ولذاتها ... فإنما نحن بها عاريه
قال: وكتب عبد الله إلى صديق له يدعوه: جعلت فداك، أنا وقلم، وأنت أعلم! وكان عبد الله يعشق جارية نصرانية ويهيم بها. فله فيها:
فتنتنا صورة في بيعة ... فتن الله الذي صورّها
زادها الناقش في تحسينها ... أنه إذ صاغها نصّرها
وله فيه لحن.
وكانت مصابيح، جارية الأحدب المقين، تغني بهذا الصوت، وتغني في كثير من شعره. وكانت أروى الناس له وأعرفهم بغنائه. وكانت موصوفة بالحسن والاحسان. وكان عبد الله يهواها.
ومما غنت فيه من شعر عبد الله: