وحكى إسحاق الموصلي عن أبيه قال: مر الرشيد بدير مُرّان فاستحسنه وأعجبه إشرافه على بساتين حسنة، ورياض مونقة بهجة، فنزله وأمر أن يؤتى بطعام خفيف، فأكل وشرب، ودعا بالندماء والمغنين، وخرج إليه صاحب الدير، وكان شيخاً كبيراً هرماً، فوقف بين يديه ودعا له، واستأذنه أن يأتيه بطعام الدير، فأذن له في ذلك، فأتاه بأطعمة لطيفة مختصرة في آنية نظيفة، فكان ذلك في نهاية الحسن والطيب، فأكل منها كثيراً واستطابها، وأمر الشيخ بالجلوس فجلس بين يديه، فأقبل عليه الرشيد بوجهه وسأله فحدثه، واستظرف حديثه، ثم قال: هل نزل بك في هذا الدير أحد من بني أمية؟ قال: نعم أصلح الله مولاي أمير المؤمنين، قد نزل بي ها هنا الوليد ابن يزيد ومعه أخوه الغمر، فجلسا في هذا الموضع الذي جلس فيه مولاي أمير المؤمنين، فقدمت إليهما طعاماً، فأكلا وشربا وغنيا وطربا، فلمّا أخذ الشراب فيهما، وثب الوليد إلى ذلك الحوض، وكان مملوءاً شراباً، فكرع فيه، وفعل مثل ذلك أخوه الغمر، حتى سكرا وناما مكانهما، فلما أفاق الوليد من سكره أمر بالحوض فملئ لي دراهم، ثم انصرفوا، فنظر إليه الرشيد) أعني إلى الكأس (فإذا هو لا يقدر أن يشرب ملأه، فقال: أبى بنو أمية إلا أن يسبقونا إلى اللذات سَبقاً لا يجاوزهم فيه أحد، ثم أمر برفع الشراب وركب من وقته وانصرف، وأمر للديراني بجائزة سنية.

حدّثني الصولي قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدّثنا عمرو بن بانة قال: خرجنا مع المعتصم إلى الشام لمّا غزا، فنزلنا في طريقنا بدير مرّان - وهو دير على تَلعة مشرفة عالية تحتها مروج ومياه حسنة - فنزل فيه المعتصم فأكل ونشط للشرب ودعا بنا، فلما شربنا أقداحاً قال لحسين بن الضحاك: أين هذا المكان من ظهر بغداد! فقال: لا أين يا أمير المؤمنين! والله لبعض الغياض والآجام هناك أحسن من هنا، قال: صدقت والله، وعلى ذلك فقل أبياتاً يغنّ فيها عمرو، فقال: أما أن أقول شيئاً في وصف هذه الناحية بخير فلا أحسب لساني ينطق به، ولكني أقول متشوقاً إلى بغداد، فضحك وقال: قل ما شئت. فقال:

يا دير مديان لا عُرّيت من سَكَنٍ ... هيّجت لي سَقَماً يا دير مديانا

هل عند قَسّك من علمٍ فيخبرنا ... أم كيف يسعفُ وجه الصَبر من بانا

حثّ المدامَ فإن الكأس مترعةٌ ... ممّا يهيج دَواعي الشوق أحيانا

سَقياً ورعياً لكرخايا وساكِنها ... وللجُنينة بالروحاء من كانا

فاستحسنها المعتصم، وأمرني ومخارقاً فغنينا فيها، وشرب على ذلك حتى سكر، وأمر للجماعة بجوائز.

دير مرماري

دير مرماري بسرّ من رأى وهو بسرّ من رأى، عند قنطرة وصيف، حوله كروم وشجر، كان عامراً كثير الرهبان، ولأهل اللهو به إلمامٌ، وفيه يقول الفضل بن العباس بن المأمون:

انضيتُ في سرّ من را خَيل لذاتي ... ونِلتُ منها هوى نفسي وحاجاتي

عمّرتُ فيها بقاعَ اللهو منغمساً ... في القصف ما بين أنهار وجناتِ

بدير مرمار إذ نحيي الصبَّوح به ... ونُعمل الكأس فيه بالعشياتِ

بين النواقيس والتقديس آونةً ... وتارةً بين عيدان وناياتِ

وكم به من غزالٍ أغيدٍ غَزِلٍ ... يصيدنا باللِّحاظ البابلياتِ

- حدّثني الصولي قال حدّثني أحمد بن محمد بن إسحاق الخراساني قال حدّثني الفضل بن العباس بن المأمون قال: كنت مع المعتزّ في الصيد، فانقطع عن الموكب وأنا ويونس بن بُغا معه، ونحن بقرب قنطرة وصيف، وكان هناك دير فيه ديراني يعرفني وأعرفه، نظيف ظريف، مليح الأدب واللفظ، فشكا المعتز العطش، فقلت: يا أمير المؤمنين، في هذا الدير ديراني أعرفه خفيف الروح لا يخلو من ماء بارد، أفترى أن نميل إليه؟ قال: نعم. فجئنا فأخرج لنا ماءً بارداً، وسألني عن المعتزّ ويونس فقلت: فتيان من أبناء الجند، فقال: بل مفلتان من حور الجنة، فقلت له: هذا ليس في دينك، فقال: هو الآن في ديني، فضحك المعتز، فقال لي الديراني: أتأكلون شيئاً؟ قلت نعم، فأخرج شطيرات وخبزاً وأداماً نظيفاً، فأكلنا أطيب أكل، وجاءنا بأطرف أشنان، فاستظرفه المعتز وقال لي: قل له فيما بينك وبينه: من تحب أن يكون معك من هذين لا يفارقك؟ فقلت له، فقال: " كلاهما وتمراً " فضحك المعتز حتى مال على حائط الدير.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015