حضرت جنازة شاجي، فلما انصرفنا، دخلت مع عبيد الله مساعداً له ومؤنساً، وهو مطرق ودموعه تجري على خديه، فلم أر باكياً أحسن منه. ثم رفع رأسه وأقبل علينا، فقال:
يميناً بأني لو بليت بفقدها ... وبي نبض عرق للحياة وللنكس
لأوشكت قتل النفس عند فراقها ... ولكنها ماتت وقد ذهبت نفسي
قال: ثم حضرت معه لزيارة قبرها، فلما همَّ بالانصراف، قال:
من زار دار أحبة لحياتهم ... ولما يؤمل من لقاء يقدرُ
فليأت دار أحبة سكنوا البلى ... كرماً وحفظاً واللقاء المحشرُ
قال: ومات ابن لعبيد الله من شاجي، فزار قبره، ثم أنشد:
أيا مجمع الأحباب بعد تفرق ... أراك قريباً والتلاقي شاسعاً
فيا عجباً إني أزورك مكرهاً ... وفيك الأولى أهوى وأجفوك طائعاً
قال جحظة: دخلت على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يوماً، فجاءه مشيخة، فأمرهم بالجلوس عن يمينه، وجاء كهول فأمرهم بالجلوس عن شماله، ودخل أحداث فوقفوا بين يديه ولم يأمرهم بالجلوس. فسألته عنهم، فقال: هؤلاء بنيّ، وأومأ إلى الشيوخ، وهؤلاء بنوهم وأومأ إلى الكهول، وهؤلاء بنوهم وأومأ إلى الأحداث.
قلت: بنوك لأم أو لأمهات شتى؟ قال جميعهم: شاجي.
وأنشد:
زرعت وشاجي بيننا في شبيبتي ... غراس الهوى فاعتم بالثمر العذب
فشاب بنو شاجي لظهري وأدركوا ... وشاب بنوهم وهي مالكة قلبي
قال: وهي معي مذ سبعون سنة.
وكان بعض المنجمين حكم بموته قبلها، فماتت قبله، فقال:
فيا عجباً مني وممن رعيته ... بأوكد أسباب الهوى ورعاني
وكنت أرجي أن أكون فداءه ... فلما أتى وقت الحمام فداني
دير علقمة بالجزيرة: وبالجزيرة دير علقمة، بناه علقمة بن عدي بن الرميك بن ثوب بن أسس بن ربى بن نمارة بن لخم، الذي يقول فيه عدي بن زيد العبادي يرثيه:
أنعم صباحاً علقم بن عدي ... أثويت اليوم أم ترحل
قد رحل الفتيان عيرهم ... واللحم بالغيطان لم ينشل
وفي هذا الدير أيضاً يقول عدي، وفيه غناء:
نادمت في الدير بني علقما ... عاطيتهم مشمولة عندما
كأن ريح المسك في كأسها ... إذا مزجناها بماء السما
من سره العيش ولذاته ... فليجعل الراح له سلما
علقم ما بالك لم تأتنا ... أما اشتهيت اليوم أن تنعما
وكان هذا الدير متنزهاً لأمراء الحيرة: يأكلون عنده، ويشربون.
دير فطرس ودير بولس: بظاهر دمشق.
قال أبو الفرج: هذان الديران بظاهر دمشق بنواحي بني حنيفة في ناحية الغوطة، والموضع حسن، عجيب، كثير البساتين والأشجار والمياه.
قال جرير:
لما تذكرت بالديرين أرّقني ... صوت الدجاج وضرب بالنواقيس
فقلت للركب إذ جدَّ الرحيل بنا ... يا بعد يبرين من باب الفراديس!
وفيه يقول أيضاً يرثي ابنه:
أودى سوادة يبدي مقلتي لحم ... باز يصرصر فوق المرقب العالي
إلا تكن لك بالديرين باكية ... فرب باكية بالرمل معوال
قالوا: نصيبك من أجر فقلت لهم: ... كيف القرار وقد فارقت أشبالي؟
دير القائم الأقصى على شاطئ الفرات من الجانب الغربي في طريق الرقة من بغداد.
قال أبو الفرج: وقد رأيته، وإنما قيل له القائم، لأن عنده مرقباً عالياً كان بين الروم والفرس يرقب عليه على طرف الحدّ بين المملكتين، شبه تل عقرقوف ببغداد، وإصبع خفان بظهر الكوفة، وعنده دير هو الآن خراب. دخلته وليس فيه أحد، ولا عليه سقف ولا باب.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال أخبرني عمي عبد الله بن مالك، عن أبيه قال: إسحاق الموصلي: خرجنا مع الرشيد إلى الرقة، فمررنا بالقائم الأقصى، فاستحسن الرشيد الموضع، وكان الوقت ربيعاً، وكانت تلك المروج مملؤة بالشقائق، وأصناف الزهر، فشرب على ذلك ثلاثة أيام. ودخلت الدير فطفته، فإذا فيه ديرانية حين نهد ثدياها، عليها مسوح، ما رأيت قط أحسن منها وجهاً وقدّاً واعتدالاً، وكأن تلك المسوح عليها حُليّ، فدعوت بنبيذ، فشربت على وجهها أقداحاً وقلت فيها:
بدير القائم الأقصى ... غزالٌ شادِنٌ أحوى
بَرى حُبي له جسمي ... ولا يدري بما ألقى