وكان أبو جعفر المنصور قد استخفى عند رجل قبل أن يتولى الخلافة هروباً من السلطان الذي كان قبله، فلما تولى الخلافة أتى إليه ذلك الرجل الذي استخفى عنده أبو جعفر، فأراد أبو جعفر أن يكرمه، فقال له: لا أقبل صحبتك، وإنك تعلم ما بي من نعمة، ولكني أتيتك لترسل معي رسالة إلى الأعمش حتى يحدثني ولو بحديث؛ فإن الأعمش متشدد بالرواية، فكتب إليه: من أمير المؤمنين إلى سليمان بن مهران الأعمش الكوفي، إذا أتاك رسولي فحدثه بمائة حديث.
فأخذ الرجل الرسالة وذهب إلى الأعمش فطرق الباب، وكان الأعمش يكره أن يدق عليه بابه، وكان الأعمش يعلف دابته، فلما دخل عليه ذلك الرجل قال الأعمش: من أين أتيت؟ قال: من عند الخليفة.
قال: وما معك؟ قال: رسالة.
قال: هات، فأخذ الرسالة وقطعها ثم لواها وناولها العنز فأكلتها.
قال: يا أعمش! أقول لك: هذه رسالة الخليفة! قال: وما بها؟ قال: إنه يأمرك أن تحدثني.
قال: والله لا أحدثك ولا أحدث قوماً أنت فيهم.
والأعمش مع أنه كان من أفقر الناس في زمانه، إلا أن أذل الناس عنده كانوا هم السلاطين والأمراء.
وهم مشايخنا الذين نتحمل عنهم، فإن كانوا هم فالحق معنا، وإن لم يكونوا كذلك فدعونا على باطلنا وضلالنا نلقى الله تبارك وتعالى، فإنا قد رضينا أن يكون الأعمش ومالك والشافعي وأبو حنيفة وغير هؤلاء هم أئمتنا إذا فسد علماء زماننا.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يكون عليكم الأمراء تعرفون منهم ما تنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع فأبعده الله.
قيل: يا رسول الله! أفنقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا) يعني: لا تقاتلوهم ما دامت الصلاة قائمة وأنكم تصلون بلا أدنى حرج.
وقال أبو حازم: إن العلماء كانوا يفرون من السلطان ويطلبهم، وهم اليوم يأتون أبواب السلطان والسلطان يفر منهم.